Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 193-196)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وإنما تعذب النفوس ؛ لرفع فتنتها بقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ البقرة : 193 ] وفتنتها معارضتها ومنازعتها مع القلب بدواعيها وشهواتها ، وشربها عن شاربها ، فعلاجها بمباشرة أضدادها حتى يصح مزاجها في العبودية ولا تبقى معها آثار البشرية ، { وَيَكُونَ } [ البقرة : 193 ] ، استسلامها ، { ٱلدِّينُ للَّهِ } [ البقرة : 193 ] ، فلا تعارض لحكم من الأحكام ، ولا تنازع في شيء مما يرويه الإسلام ، { فَإِنِ ٱنْتَهَواْ } [ البقرة : 193 ] ، فإن استسلمت النفوس { فَلاَ عُدْوَانَ } [ البقرة : 193 ] ؛ أي : الجور والتعذيب ، { إِلاَّ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 193 ] ، الذين يعبدون الهوى والدنيا من دون المولى . ثم أخبر عن اعتداء أهل الهوى ومجازاتهم بالاعتداء بقوله تعالى : { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 194 ] ، أشار فيها أن يفوتكم من الأوقات بتوالي النفوس ونزاعها وغلبات صفاتها واستيلائها فتداركوه ؛ الشهر بالشهر ، واليوم باليوم ، والساعة بالساعة ، والوقت بالوقت ، والأوراد بالأوراد ، { وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [ البقرة : 194 ] ، واقضوا الغاية ، واقتصوا الحقوق . { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] ؛ يعني : كل صفة من صفات النفس إذا غلبت واستولت عليكم ، { فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] ، وعالجوها بضدها ، فإن غلبت بالبخل عالجوها بالسخاء ، وإن غلبت بالغضب عالجوها بالحلم ، وإن غلبت بالحرص عالجوها بالترك والزهد ، وإن غلبت بالشهوة عالجوها بالرياضة والعقلة ، فعلى هذا فقس الباقي ، { بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] ، فاعتدوا عليها حتى تغلبوا عليها ، { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [ البقرة : 194 ] ، في إفراط الاعتداء والاحتراز عن هلاك النفس بكثرة المجاهدات ، وفي تفريط الاعتداء اجتناباً من الركون إلى شهوات النفس ومواقفها في المخالفات وهلاكها في فرط الآفات ، { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 194 ] ، بالنصرة إلى جهاد النفس وقهرها ، ومنعها من الاعتداء بالتوفيق للاتقاء . { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 195 ] ، من الأموال والأنفس التي اشتراها الله منكم كقوله تعالى : { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ الصف : 11 ] ، { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [ البقرة : 195 ] ، في جهاد النفس بإفراط الاعتداء وتفريطه ، ولا في جهاد الكفار بالإفراط بأن يبارز واحد على رهط ، ولا بالتفريط بأن يفر واحد من الاثنين ، وأيضاً : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } بالتفريط في الحقوق ولا بالإفراط بالحظوظ ، وأيضاً : بموافقات النفوس ومخالفات النصوص ، وأيضاً : بترك النفوس وتخلية القلوب ، وأيضاً : بملاحظة الأعمال في استجلاء الأحوال ، وأيضاً : بالركون إلى الفتور بالحسان والغرور . { وَأَحْسِنُوۤاْ } [ البقرة : 195 ] ، مع نفوسكم بوقايتها عن نار الشهوات ، ومع قلوبكم برعايتها عن دين الغفلات ، ومع أرواحكم بحمايتها عن حجب التعلقات ، ومع أسراركم بكلائتها عن ملاحظة المكونات ، ومع الخلق بالتصفية ودفع الأذيات وإيصال الخيرات ، ومع الله بالعبودية في المأمورات والمنهيات ، والصبر على المضرات والبليات ، والشكر على النعم والمسرات ، والتوكل عليه في جميع الحالات ، وتفويض الأمور إليه في الجزئيات والكليات ، وتسليم الأحكام الأزليات ، والرضا بالأقضية الأوليات ، والفناء عن الإيرادات المحدثات في إرادته القديمة القائمة بالذات ، { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 195 ] ، الذين هم في العبادة بوصف المشاهدة . ثم أخبر عن شرائط الإحسان بإتمام ركن من الأركان بقوله تعالى : { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ } [ البقرة : 196 ] ، والإشارة فيها أن حج العوام وعمرتهم قصد البيت وزيارته ، وحج الخواص قصد رب البيت وشهوده ، كما قال الخليل : { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] ، والحقيقة كما أنه أول من قصد الله وطلبه وتوجه بكليته إليه ، وقال : { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [ الأنعام : 79 ] وسلك هذا الطريق وفدى بنفسه وماله وولده في الله واتخذ ما سواه عدواً ، وقال : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 77 ] ، كان الخليل عليه السلام ، وهذا كله من مناسك الحج الحقيقي ؛ فلذلك جعله الله أول من بني بيت الله وطاف وحج { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ } [ الحج : 27 ] ، وبين المناسك ، وكان الحج صورة ومعنى ، ظاهراً ، وحقيقة مقامه عليه السلام كقوله تعالى : { فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] ، ولكنه كما كان له مقامات كان للنبي صلى الله عليه وسلم حالاً ، والحال أتم من المقام ؛ لأن المقامات من المنازل ، والأحوال من المواهب ، فيمكن سلوك المقامات بغير المواهب ، ولا يمكن المواهب بغير سلوك المقامات ، فلما كان الخليل عليه السلام من أهل المقامات { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] ، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم من أهل المواهب قيل : { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] ، فلما كان ذهابه بنفسه في الحج الحقيقي بقي في السماء السابعة { أُحْصِرْتُمْ } الحج والعمرة ، وقيل له : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [ البقرة : 196 ] ، فأفدي بإسماعيل ، ولما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وكان ذهابه بالله ما أحصره شيء ، قيل له : { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ } [ البقرة : 196 ] ، فأتم حجه بإذن ربه ، { فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } [ النجم : 8 - 9 ] ، ثم أتم عمرته بأن تجلى له أقمار المقصود عن كشف تفرد بالشهود ، وتجلي عناية المحبة عن شموس الوصلة ، وجرى بين المحبين ما جرى ، { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [ النجم : 10 ] ، ثم نودي من سرادقات الجلال في إتمام الحج والإكمال يوم الحج الأكبر عند وقوفه بعرفات في حجة الوداع ، وهو آخر الحجاب { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } [ المائدة : 3 ] . ثم قال لأمته وقد علم فيهم الضعيف والعليل ، وذا التعلق والآفات ، وأصحاب الحوائج والموانع : { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ } أي : واسعوا في إتمام صورة الحج وحقيقة بقدر استطاعتكم في متابعة صورة سير النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقته ، أما إتمامه في الصورة بأن تقيموا شرائعه المشروعة ، ويكون قصدكم من بيوتكم أن تخرجوا لا للتجارة ولا للنزاهة ولا للرياء والسمعة ، بل يكون خالصاً لله تعالى ، وأما إتمامه في الحقيقة فبأن يكون خروجك من وجودك وقصدك الله بالله لا لشيء من المقاصد في الدارين ، وبأن يقيم شرائطه في الطريقة ؛ لتبلغ الحقيقة وتتيقن بأنه { لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ } [ النحل : 7 ] ، { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } بعداوة النفس ، وغلبة الهوى ، وبملالة القلب ، ودناءة النفس فيهدي بما كان الحصر منه ، { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [ البقرة : 196 ] ؛ معناه : لا تكونوا فارغين عنه مشغولين بغيره ؛ حتى تبلغوا المقصد والمقصود . { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً } [ البقرة : 196 ] ؛ يعني : إن عارض لأحدكم مرض في الإرادة أو ضعف في الطلب { أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ } [ البقرة : 196 ] ؛ يعني : إذ يعله وتعتريه مانعات من إكماله من غير فترة من نفسه ، فلم يجد بدا من الإقامة بفناء الرخص والنزول بساحة تأويلات العلم ، فليجتهد أن لا ينصرف خطوة من الطريق ولا يعرض لمحة عن هذا الفريق ، فإنه قال بعضهم : من أقبل على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله ، بل يلازم عتبة الفقر ، وليطلب الفرج بالصبر ، ويتدارك الأمر بما أشار إليه بقوله تعالى : { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ } [ البقرة : 196 ] ؛ أي : الإمساك عن المشارب ، { أَوْ صَدَقَةٍ } [ البقرة : 196 ] ؛ أي : بالخروج عن المعلوم ، والتقرب بما أمكنه من التضرع والابتهال والتطوف على الأولياء وخدمة الفقراء ، { أَوْ نُسُكٍ } [ البقرة : 196 ] ؛ أو بذبح النفس في مقامات الشدائد ، والصبر على البلاء ، وبذل المجهود في طلب المقصود . { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ } [ البقرة : 196 ] ؛ يعني : إذا زال الحصر وأشرق بنور الجبار هواء الزمان وقضاء العصر أقبل الجد الصاعد ، والزمان المساعد ، وتجدد عهد الطلب ، وانقطع كلفة التعب ، فليستأنف للوصلة وقتاً ، وليفرش للقربة بساطاً ، وليتجدد للقيام بحق السرور نشاطاً ، ولتقبل هي على البهجة ، فقد مضت أيام المحنة ، وليكمل الحج والعمرة ، وليستدم القيام بحق الصحبة والخدمة ، { فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [ البقرة : 196 ] ، فموجب الهدي لمعنيين . أحدهما : الاستدراك ما فاته في أيام الفترة والوقفة ، والاستغفار عنها ، والثاني : الاستدراج ما استقبله من العواطف وشكرها ، والهدي هو أن يهدي بأعز شيء من أمواله واجهاً إليه ، ويصرفه عن أصحابه وإخوانه في الدين وأعوانه في الطلب ، وينفقه على أرباب الهمم العلية من الفقراء الصادقين والأغنياء المتقين . { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } [ البقرة : 196 ] ؛ يعني : في الظاهر يساراً أو سعة ، { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ } [ البقرة : 196 ] ، فعليه الإمساك عن مشارب حصول كمالات الوصول في تلك الحالة ، { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [ البقرة : 196 ] ؛ يعني : باقي العمر ، { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [ البقرة : 196 ] ؛ يعني : الإمساك عن المشارب كلها في غلبات الأحوال ، وبعد الرجوع إلى عالم الأعمال من أوصاف الكمال وأخلاق الرجال ، { ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 196 ] ؛ يعني : ذلك التوفيق لدوام المراقبة في الإمساك لمن لم يكن مقيماً في منزل من منازل النساك ، بل يكون لقريب من الأوطان بل قريب من أهل الزمان ، غريب في الأقران من الغرباء في آخر الزمان ، الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم : " فطوبى للغرباء " . { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [ البقرة : 196 ] ؛ أي : احذروا أن تسكنوا في فترة أو وقفة ، أو تركنوا في مشرب من هذه الشرائط ، { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } [ البقرة : 196 ] ، للغافلين من هذا الخطاب ، والمعرضين عن طريق الصواب ، الغائبين بذل الحجاب ، المردودين إلى العذاب .