Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 209-214)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ فَإِن زَلَلْتُمْ } [ البقرة : 209 ] أي : زالت أقدامكم عن صراط الإسلام الحقيقي { مِّن } [ البقرة : 209 ] ، أيضاً معه العداوات فهو إظهار محبته أي : الله فإن محبته أي : الشيطان مضمرة في عداوات الشيطان { بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } [ البقرة : 209 ] ؛ أي : البراهين القاطعة والحجج الساطعة من القرآن ومعجزاته والأمر بدخول الإسلام الحقيقي والنهي عن اتباع الشيطان ونزعاته { فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ } [ البقرة : 209 ] ؛ فلعزته لا يهتدي إليه كل ذليل دنيء الهمة قصير النظر { حَكِيمٌ } [ البقرة : 209 ] ، بحكمته يهدي من يشاء إلى سرادقات عزته . ثم أخبر عن أهل الزلل وغرورهم وعواقب أمورهم بقوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ } [ البقرة : 210 ] ، والإشارة فيها أن الله تعالى أخبر عن أهوال القيامة وأحوالها بكلام قريب إلى أفهام العوام ، وأما الذين في قلوبهم نور الإيمان وشرح الله صدورهم بنور الإسلام ، فقد هدوا وفهموا مقصود الكلام في هذه الآية وأمثالها وانتفعوا بها بلا توهم تشبيه أو تمثيل أو تخيل نفي وتعطيل ، وأما الذين هم أهل الأهواء كما قال تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } [ آل عمران : 7 ] ، فشرعوا فيها بأهوائهم وفسروها بآرائهم ، فوقعوا في أودية الضلالة فهلكوا وأهلكوا خلقاً بالجهالة فنادتهم العزة : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } [ آل عمران : 7 ] ، فإنهم أصحاب الكشوف وأرباب المشاهدات ، فيتجلى الله لهم تارة بصفات الجمال فيريهم لمعة من أصناف ألطافه وأنواع إعطائه مع خواص عباده ، ومرة بصفات الجلال فيذيقهم شظية من آثار هيبته وقهره مع المتمردين من أهل عناده ، فيحل لهم كل أشكال وينجيهم من كل ضلال ، ويغنيهم بها عن كل تفسير وتأويل ، ويخلصهم من كل تشبيه وتعطيل ، وكوشفوا بحقائق ما أخبروا وعاينوا بخلاف ما أضمروا ولكن يضيق عن إعلامه نطاق النطق ولا يسع إظهار لا في ظهوره الحروف كما قيل ، وإن قميصاً خيط من نسج تسعة وعشرين حرفاً عن معانيه قاصر ، بل لا ينتهي إليها حظي العقول والأوهام ، ولا يدركها إبصار البصائر والإفهام ، فإن هذا عما يكاشف الخواص والأولياء في حال غيبتهم عن الخلق وشهودهم الحق وهم مسلوبو النطق مغلوبو العقل ، ومن تأمل هذا وتكشف له أثر من الغوامض التي درج عليها المتقدمون مكلفين عقولهم ما ليس في وسعها طمعاً في أن ينالوا ما لا ينال وكان عاقبتهم الحيرة والضلالة . ثم أخبر عن زوال النعمة لأهل الضلالة والنعمة بقوله تعالى : { سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } [ البقرة : 211 ] ، الآيتين والإشارة فيهما أن السؤال وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن فائدته راجعة إلى عامة أمته وخاصتها ، فإنا فائدته فهي أن يعلموا أن الله إذا أنعم على عبد بنعمة من أنواع نعمه الظاهرة والباطنة فإن لم يعرف قدرها فيبدل نعمته بالنقمة أن يكفرها ولا يشكرها ، كما فعل بنو إسرائيل من بعد ما جاءتهم البينات من المعجزات والكرامات فما عرفوا قدرها فبدلوها بما قالوا . { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] وبعبادة العجل فجازاهم الله شدة العقاب فيما ابتلاهم بأنواع البلاء من القحط وقتل النفس وغير ذلك أو بأن يصرف نعمه في مصروف دون رضاه { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } [ البقرة : 211 ] ، في المجازات والمكانات . وأما فائدة الخواص في أن يتحقق لهم أن الله إذا فتح باب الملكوت على قلب عبد من خواصه ويريه آياته في الملك والملكوت ، ويظهر عليه أنواع كراماته فإن لا يغتر بأحواله أو يعجب بكماله فيقبل على شيء من مرادات النفس وبما يلائم هواها ويبدل نعمته برأفته للنفس ورضاها { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } [ البقرة : 211 ] ، بأن يغير عليه أحواله ويسلب عنه كماله والذي يدل على هذا التأويل قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] ، ومن شدة عقابه إذا أذنب عبد ذنباً صغيراً ولم يتب عنه ويصر عليه أن يعاقبه مثل تبديل النعمة ليعاقبه بزوال النعمة في الدنيا ودوام النقمة في العقبى . وأيضاً من شدة عقابه أن يزين : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } [ البقرة : 212 ] ، ويمكر بهم حتى يغلب عليهم حب الدنيا : { وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ البقرة : 212 ] ، من فقرائهم وكبرائهم حملهم شدة العقوبة على الوقيعة في أوليائه واستحقار أحبابه : { وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 ] { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ البقرة : 212 ] ، بأنهم في أعلا عليين وإنهم في أسفل سافلين { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 212 ] ، من درجات أعلا عليين ودركات أسفل سافلين { بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ البقرة : 212 ] ، بغير نهاية أبد الآباد فإن ما لا نهاية له لا يدخل تحت الحساب ، وفيه معنى آخر بغير حساب يعني ما يرزق العبد في الدنيا فلحرامها عذاب ولحلالها حساب وما يرزق في الآخرة من النعيم المقيم فبغير عذاب وبغير حساب . ثم أخبر عن حال الخلق في البداية وإن العناية في الهداية بقوله تعالى : { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً } [ البقرة : 213 ] ، والإشارة فيها أنه كان الخلق في بدء الأمر على الفطرة التي فطر الناس عليها أمة واحدة حين أشهدهم على أنفسهم { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [ الأعراف : 172 ] ، قالوا : { بَلَىٰ } إن ولدوا على الفطرة لقوله : صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " ما قال : أو يسلمانه ؛ فلمعنيين : أحدهما : أن الكفر يحصل بالتقليد ولكن الإيمان الحقيقي لا يحصل بالتقليد . والثاني : أن الأبوين الأصليين الأنجم والعناصر ، فعلى التقديرين الولد بتربية الآباء والأمهات يضل عن سبيل الله ويزل قدمه عن الصراط المستقيم ؛ التوحيد والمعرفة ، ولو كان نبياً فإنه يحتاج إلى هاد يهديه إلى الحق كما قال تعالى لنبينا : صلى الله عليه وسلم { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [ الضحى : 7 ] { فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ } [ البقرة : 213 ] ، للهداية { مُبَشِّرِينَ } [ البقرة : 213 ] ، مجيبي الدعوة إلى الله بالنجاة ، ونيل الدرجات في مقام القربة والوصلة { وَمُنذِرِينَ } [ البقرة : 213 ] ، مخالفي الدعوة من الويل والهلاك في الدركات بالفرقة والقطيعة { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ } [ البقرة : 213 ] ، إشارة إلى كتاب الله الذي جف القلم لكل واحد بالسعادة أو الشقاوة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَإِلاَّ قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً ، قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى أَهْلِ السَّعَادَةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ، قَالَ : أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ " تلا هذه الآية : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } [ الليل : 5 - 7 ] ، { لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } [ البقرة : 213 ] ؛ أي : هذا الكتاب { فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ } [ البقرة : 213 ] ، أهل السعادة { فِيهِ } [ البقرة : 213 ] ؛ في طلب ما كتب لهم واختلف أهل الشقاوة فيما كتب لهم ، وكل ميسر لما خلق له بحكم الكتاب { وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ } [ البقرة : 213 ] ؛ يعني : وما اختلف كل فريق من الفريقين في طلب السعادة والشقاوة إلا وقد أوتوا السعادة أو الشقاوة في حكم الله وقضائه ، ولكنه ما حصلت السعادة والشقاوة للفريقين إلا { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ } [ البقرة : 213 ] ؛ يعني : بالبينات معاملات أهل السعادة ، وأهل الشقاوة فإنها تبين السعيد من الشقي والشقي من السعيد ؛ فأما الشقي يسعى في ضلالته التي أورثها الآباء والأمهات وردته في ذيل أسفل الطبيعة الإنسانية ، فيعامل الله والخلق بالشرك والظلم والفجور والحسد ، كما قال تعالى : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } [ البقرة : 213 ] ، فيستحق بذلك دركات الشقاوة ، وأما السعيد فبجذبات العناية يتمسك بحبل الهداية ، ويرقى بقدم صدق الطلب قوة الإيمان ، وسعي الأعمال الصالحة من حضيض البشرية إلى ذروة العبودية ودرجات مقامات القربة والوصلة ، كما قال تعالى : { فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ } [ البقرة : 213 ] ؛ أي : إلى ما اختلف فيه كل فريق من أهل السعادة والشقاوة في البداية من الوصول إلى الحق سبحانه فأهل العناية وصلوا إليه بهدايته { بِإِذْنِهِ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 213 ] ؛ أي : إلى الله كما قال تعالى : { وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } [ الرعد : 27 ] . ثم أخبر عن أحوال الأولياء ، وأن لا بد لهم من البلاء والابتلاء بقوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } [ البقرة : 214 ] ، والإشارة فيها أن الله تعالى خلق الجنة وصفها بالمصاعب والمصائب ، وخلق النار وصفها بالشهوات والرغائب ، وابتلى الأولين بفنون مقامات الشدائد والمحن ، كما قال تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } [ آل عمران : 146 ] ، ثم نادى الآخرين : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ } [ البقرة : 214 ] ؛ يعني : ما لم يمسكم البأساء والضراء مثل ما مسهم لم يرجعوا بالاضطرار إلى رحمة الرحيم { حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 214 ] ، ويقول الله تبارك الله وتعالى للمضطرين { أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] ، على هذا أدرج الأولون والآخرون أي : سلوك طريق الولاء بقدم البلاء فمن كان نصره أعلى في مراتب قربة المولى فبلاؤه أقوى ، وهو بالبلاء أولى فمن ظن غير ذلك ؛ فهو في تيه الهوى هالك مردود من باب المالك .