Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 215-220)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عن سؤالهم في إنفاق أموالهم بقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 215 ] ، والإشارة فيها : أن سؤالهم ماذا ينفقون من جنس الأدب لأهل الطلب لكيلا يتصرفوا في شيء من أموالهم ، ويغيروا حالاً من أحوالهم بالهوى والطبع ؛ بل بالأمر والشرع يوجب الرفعة والقربة ، فليس للعبد تحرك إلا بإذن مولاه ، ولا سكون إلا على وفق رضاه ؛ لأن العبودية الوقوف حيث ما أوقفك الأمر والصرف أينما صرفك الحق ؛ فأجاب الله تعالى سؤالهم بقوله : { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } [ البقرة : 215 ] ، دنياوي وأخروي من مال وجاه علم ، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، فأبدوا { فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } [ البقرة : 215 ] . كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " على ترتيب الأمر { وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } [ البقرة : 215 ] ، ثم جعل الخير عاماً ، وقال تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } [ البقرة : 215 ] يعني : من أي نوع من أنواع الخيرات مع كل ذي روح كما قال : صلى الله عليه وسلم " في كل كبد حراء أجر " ، { فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [ البقرة : 215 ] أي : بالخير الذي تفعلون وبمن معه تفعلون ، وبأي اعتقاد ونيته ؛ بالحق أو بالباطل ، بالرياء أو بالإخلاص ، بالطبع أو بالشرع ، بالهوى أو بالله ، والله عليم ومجازيكم عليه بقدرات استحقاقكم . ثم أخبر عن فرض القتال بقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] ، والإشارة فيها : أن قتال النفس وجهادها في الله أمر لازم حق واجب بقوله تعالى : { وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [ الحج : 78 ] ؛ ولكنه للطبع فيه كراهة عظيمة ، وحقيقة الجهاد رفع الوجود المجازي ، فإنه الحجاب بين العبد والرب كما قيل : وجودك ذنب لا يقاس به ذنب ، وكما قال ابن منصور رحمه الله : بيني وبينك أني يزاحمني فارفع بجودك أني من البين { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } [ البقرة : 216 ] ؛ يعني : تكره النفس رفع وجودها { وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] أي : خير للنفس بأن تتبدل أوصاف الوجود الحقيقي { وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً } [ البقرة : 216 ] ، وهو تمتعات النفس البهيمية باللذات الجسمانية { وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] ؛ أي : شر للنفس بحرمانها عن السعادة الأبدية ، واللذات الروحانية ، وذوق المواهب الربانية { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ } [ البقرة : 216 ] ، أن في كراهة النفوس ما أودع من راحة القلوب ، وفي قتلها ما قدر من الحياة { وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ] ، أن حياة القلوب في موت النفوس ، وفي حياة النفوس موت القلوب ، كما قال : @ أَقَتلوني يا ثِقاتي إِنَّ في قَتلي حَياتي @@ ثم أخبر عن السؤال عن الشهر الحرام ، وفيه القتال بقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } [ البقرة : 217 ] الآيتين والإشارة فيهما أن المعاصي بعضها أكبر من بعض ، أن سوء الأدب على الباب لا يوجب على البساط يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ البقرة : 217 ] أي : ذنب كبير ؛ لأن فيه ترك حرمة الشهر ولكن { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ } [ البقرة : 217 ] ، وترك حرمة { وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 217 ] ، وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم وإخراجه من مكة أكبر من ذلك ؛ لأن ترك حرمة الشهر زلة النفس والصد عن سبيل الله والكفر بالله وإخراج النبي صلى الله عليه وسلم كفر ، فمؤاخذة النفوس الكافرة على الزلات بالعقوبة المؤجلة وهي الافتراق بعد الاختراق وزلات المؤمنين وسيأتيهم تبدل حسنات عند التوبة والاستغفار والأعمال الصالحة { وَٱلْفِتْنَةُ } [ البقرة : 217 ] ، التي يشرونها بطريق القتال والخداع أهل الكفر حتى يردوكم بها عن دينكم إن استطاعوا أكبر وأعظم عند الله { مِنَ ٱلْقَتْلِ } [ البقرة : 217 ] ، شرك في الشهر الحرام { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ } [ البقرة : 217 ] ، فإنه { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } [ البقرة : 217 ] ، ويؤاخذ الله أهل هذه الفتنة بهما كما يؤاخذهم بكفرهم { وَأُوْلـٰئِكَ } [ البقرة : 217 ] ؛ يعني : أهل الفتنة : { أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 217 ] ، لأنهم كفروا وأثاروا الفتنة لارتداد المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا وما استطاعوا ولكن يؤاخذون بالسعي في الترديد { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } [ النجم : 39 - 40 ] ، وأما الذين كانوا أهل الفتنة يسعون في ترديدهم أدركتهم العناية الأزلية بدفع البلية وبدل خوفهم بالرجاء وجفاءهم بالوفاء وأنزل فيهم { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ } [ البقرة : 218 ] ، أي : مع أنهم آمنوا هاجروا عن أوطانهم { وَجَٰهَدُواْ } [ البقرة : 218 ] ، بأبدانهم { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ } [ البقرة : 218 ] ؛ يعني : أولئك هم المستحقون لرحمة الله { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } [ البقرة : 218 ] ، يغفر ذنب قتالهم في الشهر ، أم { رَّحِيمٌ } [ البقرة : 218 ] ، يرحم عليهم إذا هاجروا وجاهدوا في سبيل الله . ثم أخبر عن أهل مراعاة الأمر وسؤالهم عن الخمر بقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ } [ البقرة : 219 ] ، والإشارة فيها أن الخمر الظاهر كما يتخذ من أجناس مختلفة كالعنب والتمر والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك فكذلك خمر الباطن من أجناس مختلفة كالغفلة والشهوة والهوى وحب الدنيا وأمثالها ، وهذا الخمور تسكر النفوس والعقول الإنسانية وفيها { إِثْمٌ كَبِيرٌ } [ البقرة : 219 ] ، ولهذا كل مسكر حرام ، وما يسكر كثيره فقليله حرام ، ومنها ما يسكر القلوب والأرواح والأسرار وهو شراب الواردات وأقداح المشاهدات من ساقي تجلي الصفات ، فإذا أدارت الكئوس انخمدت النفوس ، وتسكر القلوب بالمواجيد عن المواعيد ، والأرواح بالشهود عن الوجود ، والأسرار بلحظ الجمال عن ملاحظة الكمال ، فهذا شراب حل { وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 219 ] ، قال قائلهم : @ فتهجرك من لفظي هو الوصل كله وسكرك من لحظي فسح لك الشرب فما ملّ ساقينا وما ملّ شارب غفار لحاط كأسها يسكر اللب @@ فالعجب كل العجب أن قوماً أسكرهم الشراب ، وقوماً أسكرهم شهود الساقي كقولهم : @ فأسكَرَ القومَ دَورُ كأسٍ وكان سكري من المُديرِ @@ وإثم الإعراض عن كئوس الوصال في النهاية أكبر من نفع الطلب ألف سنة في البداية ، وكما أن السكران ممنوع من الصلاة فسكران الغفلة والهوى ممنوع عن المواصلات ، وأما إثم الميسر فهي إن آثار القمار هي شعار أكثر أهل الديار في سلوك طريق الحيل والخداع بالفعل والكذب والفحش في المقال ، وإنه كبير عند الأخيار بعيد عن خصال الأبرار ، وأما نفعه فعدم التفات إلى الكونين ، وبذل نقوش العالمين في فروانية نقش الكعبتين : { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ البقرة : 219 ] لأن إثمهما للعوام ونفعهما للخواص وقليل ما هم { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } [ البقرة : 219 ] ، وهو ما يعطيه المرء ويعفو أثره عن قلبه عند الإنفاق يعني : يطيب القلب لأن أصل العفو المحو والطمس يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصدقة ما كان عن ظهر عنى " وقال : ليس الغنى عن كثرة الغرض ، ولكن الغني غنى النفس ، وفيه معنى آخر قيل : العفو التجاوز عن الذنوب وترك العقاب ، والذي يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في تأويل قوله تعالى : { خُذِ ٱلْعَفْوَ } [ الأعراف : 199 ] ، قال وعفوك عن ظلمك وقال تعالى : { وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [ البقرة : 237 ] ، وقيل العفو ما فضل عن حاجتك ، وهذا للخواص أن يخرجها عن فاضل أموالهم عن قدر كفايتهم ، فأما خاص الخاص فطريقهم الإيثار وهو أن يؤثر غيره على نفسه وبه فاقة إلى ما يخرج وإن كان صاحب الذي يؤثر به غني { كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ } [ البقرة : 219 ] ، في هذه السؤالات { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [ البقرة : 219 ] ، في أحوالكم وحاصل أموالكم { فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } [ آل عمران : 22 ] ، فستعلمون أن ما عندكم ينفد وما عند الله باق { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } [ البقرة : 220 ] ، تأديب وتعليم وبذل النصح لهم من إصلاح ما لهم ولكم في ذلك أيضاً خير وثواب وأجر عند الله { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ } ، في المعاملة والمجالسة والمكالمة { فَإِخْوَانُكُمْ } ، فكونوا معهم كما تكونون مع إخوانكم في الصبر على الاحتمال عنهم عند الإرشاد والنصيحة والشفقة عليهم بكل حال من غير سآمة وملالة { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ } [ البقرة : 220 ] ، في الإفساد والفساد { مِنَ ٱلْمُصْلِحِ } [ البقرة : 220 ] ، في الإصلاح فيعامل كلا على سواكن قلبه من المقصود لا على ظواهر كسبهم من جميع الفنون { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ } [ البقرة : 220 ] ، يعز بعزته من يشاء ويذل من يشاء { حَكِيمٌ } [ البقرة : 220 ] ، يحكم بحكمه ما يشاء .