Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 266-267)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن حال النفاق في الإنفاق بقوله تعالى : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } [ البقرة : 266 ] ، إشارة في تحقيق الآية ، إن الله تعالى ضرب مثلاً لروح الإنسان وقلبه بجنة { لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } [ البقرة : 266 ] ، إذ خلق في أحسن تقويم مستعداً لجميع الكرامات والكمالات ، مزيناً بجميع الفضائل وحسن الشمائل ، مكرماً بعلم جميع الأسماء ، منوراً بأنوار العقل والحواس ، متوحداً بحمل الأمانة ، متفرداً برتبة الخلافة ، جنة هي منظور نظر العناية ، { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ } [ البقرة : 266 ] ، أنهار الهداية وأصاب صاحبها ضعف الإنسانية ، { وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ } [ البقرة : 266 ] ، من متولدات البشرية ، وهم في غاية الاحتياج للتربية بأغذية ثمراتها ، { فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ } [ البقرة : 266 ] ، من أعمال البر ، { فِيهِ نَارٌ } [ البقرة : 266 ] ، من الرياء والنفاق { فَٱحْتَرَقَتْ } [ البقرة : 266 ] ، الروحانية بنار صفات البشرية ، وأبطلت جميع استعدادها ، وقابلته الكمالات فيها بتبديل أخلاق الروحاني النفساني وأوصاف الملكي الشيطاني والحيواني ، فأهبط من أعلى عليين إلى أسفل سافلين الطبع ، { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ } [ البقرة : 266 ] ، ألطافه وإحسانه معكم في أصل الخلقة من حسن استعداد الفطرة ، { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [ البقرة : 266 ] ، في الآية ونعمائه معكم لا تبطلوا حسن حالكم بقبيح أفعالكم ، ولا تفسدوا صالح خصالكم بفساد أعمالكم ، وتوبوا إلى الله بصدق نياتكم ، وأخلصوا لله معاملاتكم في طاعتكم ، ولا تضيعوا أعمالكم في طلب آمالكم ، واستعدوا للموت قبل حلول آجالكم . ثم أخبر عن إنفاق المال من كسب الحلال بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } [ البقرة : 267 ] ، الإشارة فيها : أن الله تعالى لمَّا أمر للتصدق بإنفاق الطيب من ماله ، راعى صلاحه أكثر مما راعى صلاح الفقير ؛ لأن صلاح الفقير مقصور على ما يقول : راجع إلى نفسه ، وإن صلاح المتصدق راجع إلى سبعة أمور : أحدها : لو فسرنا الطيب بالحلال فيقبل الله منه ، وإن لم يكن طيباً فلا يقبل الله منه ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب " ، ولو فسرناه بالجودة . وثانيها : أن يكون في إنفاق الطيب جانب الحق تعالى مرعياً بالتعظيم ، وقد أمر بالتعظيم لأمر الله ، فيثاب على ذلك أيضاً . وثالثها : فيه رعاية جانب الفقير بالشفقة عليه ، وقد أمر بالشفقة عليه ، وقد أمر بالشفقة على خلق الله ، فيثاب على ذلك أيضاً . ورابعها : أن يكون به مؤثراً على الفقير ، فيثاب أيضاً . وخامسها : يستحق بذلك البر من الله تعالى ، كقوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] ، والبر مزيد على الثواب ؛ لأن الثواب يحصل بإنفاق أدنى شيء وأدون شيء ، والبر لا يحصل إلا بإنفاق الأحب ، والطيب هو أحب من الرديء ، فيحصل له ثواب الإنفاق مع مزيد البر بالإنفاق الأحب . وسادسها : أنه موجب لزيادة إيمان مع إيمانه ؛ لأن المتصدق في صدقته كالزارع في زراعته ، فإن للزارع إيماناً بأن له من زراعته البذر ثمرة أوفى من البذر ، ولكنه مما يجد موجباً لزيادة هذا الإيمان بحصول الثمرة ، فيبالغ في الزراعة بجودة البذر لتحققه أن جودة البذر مؤثرة موجبة بجودة الثمرة وكثرتها ، وكذلك المتصدق فكلما ازداد إيمانه بالله والبعث والثواب والعقاب يزيد في الصدقة وجودتها لتحققه { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] ، { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 40 ] . وسابعها : إنه لمَّا يعطي الله أحب ما عنده فإن الله يجازيه بأحب ما عنده ، كما قال : { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } [ الرحمن : 60 ] ، وأما تقديم كسب العبد على ذكر ما أحبه من الأرض واحتضنه بالطيب ففيه إشارة إلى : " إن الطيب ما يأكل الرجال من كسب يده " كما قال صلى الله عليه وسلم . وفي قوله : { أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [ البقرة : 267 ] ، إشارة إلى معنى آخر في غاية اللطائف ؛ يعني : أنفقوا من طيبات نياتكم ، من تزكية النفوس وتصفية القلوب عن خيانة صفات النفس الخبيثة وتصرفات الشيطان الخبيث ، { وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ } [ البقرة : 267 ] ، طينتكم في تجلية سرائركم بمكارم الأخلاق وأنوار الوفاق ؛ لتكون الشفقة طيبة من خباثة الشبهات في نفسها ، طيباً إنطاقها من خباثة الأغراض والعلل الدنيوية والأخروية ، طيباً منفقها من خيانة الالتفات ، والنظر في الإنفاق إلى غير الله تعالى ، { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ } [ البقرة : 267 ] ؛ يعني : النفقة الخبيثة في نفسها ، بخباثة الشبهات بالنية الخبيثة ، بخباثة الغلات من النفس الخبيثة ، بخباثة الصفات الذميمة عن المنفق الخبيث ؛ وهو : القلب الملوث بخباثة الالتفات ، والنظر في الإنفاق إلى غير الله { مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [ البقرة : 267 ] ؛ يعني : لا تنفقوا إلا من الوجوه الطيبات كما قررنا ، حتى يكون مقبولاً " فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً " ، وإن الله تعالى بحسب كل طيب قبولاً طيباً ، فإذا كانت الصدقة طيبة في نفسها لله قبول طيب عن الوسائط ، فيأخذها بيده فيزيدها قبل أن تقع في يد الفقير ، وإذا كانت النية في إنفاقها فلله قبول طيب فإنها أبلغ عند الله من عملها ، وإذا كان القلب المنفق طيباً عن الالتفات إلى غير الله فلله قبول طيب عن الأخيار بين أصبعين من أصابع الرحمن ، فها هنا يتحقق لذوي البصائر الطيبة : " إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب " ، ومن هنا تبين حقيقة { ٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ } [ النور : 26 ] . ثم قال : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } [ البقرة : 267 ] ؛ يعني : وأنتم لستم بآخذي هذه الخبائث في أصل الفطرة ، ولا في عهد الخلقة من النية الخبيثة ؛ لأنكم خلقتم من أصل طيب وطينة طيبة ، والروح من أطيب الأطايب ؛ لأنها أقرب الأقربين إلى حضرة رب العالمين لكرامة شريف إضافة { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] ، فمن أطيب ممن منشأه نفخة الحق والجسد من التراب الطيب قد خلق ، كقوله تعالى : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } [ النساء : 43 ] ، ثم أحيا لكم بالإيمان حياة طيبة ؛ لقوله تعالى : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 97 ] ، ثم رزقكم من الطيبات . وقال تعالى : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ طه : 81 ] ، فليس منكم شيء خبيث في الظاهر والباطن ، { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } [ البقرة : 267 ] بالطبع { إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } [ البقرة : 267 ] بالتكلف والقهر في قراءات من قرأ بضم التاء وفتح الميم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على فطرة فأبواه يهودانه ويلوناه بخباثة الكفر قهراً وجبراً " ، فلم تكن الخيانة ذاتية للإنسان إلا طارئة عليه عارية لديه ، أنزل الله تعالى كلمة طيبة وعفي لا إله إلا الله ، وأمركم بالمواظبة عليها بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ الأحزاب : 70 - 71 ] ؛ يعني : قولوا هذه الكلمة ، يبالي أن يتقي بتنقيتها خباثة قد أخذتموها من التكليف عن قومكم ، ويثبت بإثباتها طيب التوحيد والمعرفة ، فتطيب أعمالكم وتغفر لكم ذنوبكم بتطيب أخلاقكم ، فلما سلمتم من خباثة أعمالكم بتطيب أخلاقكم نوديتم من سرادقات الجلال عن حرثه جنات عالم الجمال ، { سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] . ثم قال تعالى : { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ البقرة : 267 ] ؛ يعني : من كمال غناه يسد فقركم جميعاً بشظية من كمال غناه ويفنيكم كلكم ، وما ينقص من كمال غناه مثقال ذرة ، وظاهر قوله تعالى : { أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } [ البقرة : 267 ] ، يقتضي أنه يطلب من غناكم ، وباطنه يبقى عن مطالبة إياكم ، يفنيكم بلا علة وغرض يرجع إليه ، بأن تشكروا له على نعمه ، أو تحمدوه على فضله وكرمه ، فإنه في ذاته حميد بصفاته مجيد .