Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 268-270)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عن عدة الشيطان وعدة الرحمن بقوله تعالى : { ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ } [ البقرة : 268 ] ، والإِشارة فيها : أن الشيطان حين يعدكم بالفقر ظاهر ، فهو يأمركم بالفحشاء حقيقة ، والفحشاء : اسم جامع لكل سوء ؛ لأن عدته بالفقر تضمن معاني الفحشاء ، وهي البخل والحرص ، واليأس من الخلق ، والشك في وعد الحق للخلق بالرزق ، والخلف للمتفق ومضاعفة الحسنات ، وسوء الظن بالله وترك التوكل عليه ، وتكذيب قول الحق ، ونسيان فضله وكرمه ، وكفران النعمة ، والإعراض عن الحق ، والإقبال على الخلق ، وانقطاع الرجاء من الله وتعلق القلب بغيره ، ومتابعة الشهوات ، وإيثار الحظوظ وترك العفة والقناعة ، والتمسك بحب الدنيا وهو رأس كل خطيئة وبذر كل بلية ؛ ولهذا القوم بالتخصيص الانحطاط من كل مقام عليّ إلى كل منزل دنىء ، مثل الخروج عن حول الله وقوته إلى حول نفسه وقوتها ، والنزول عن التسليم والتفويض إلى التدبير والاختيار ، ومن العزائم إلى الرخص والتأويلات ، والركون إلى غير الله تعالى بعد السكون معه ، والرجوع إلى ما تركه الله بعد بذله في الله ، فهذه كلها وأضعافها مما تضمنت عدة الشيطان بالفقر ، فمن فتح على نفسه باب وسوسة فسوف يبتلى بهذه الآفات . { وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً } [ البقرة : 268 ] ، ومن سد على نفسه باب وسوسة بالعدة ، يفتح على نفسه باب عدة الحق بالمغفرة ، ويفيض الله تعالى من بحار فضله سجال ثوابه ، ويحفظه من هذه الآفات ويخطه على عسكها من أنواع الكرامات ورفعة الدرجات ، { وَٱللَّهُ وَاسِعٌ } [ البقرة : 268 ] ، فضله وكرمه وعطاؤه وملكه وغناؤه ورحمته ومغفرته ، { عَلِيمٌ } [ البقرة : 268 ] ، بمن سد باب وسوسة الشيطان على نفسه ، وفتح باب الفضل والمغفرة والرضوان من ربه ، فينعم عليه بأنواع مما لديه عاجلاً وآجلاً ، فمن ذلك يفتح الله تبارك وتعالى على قلبه باباً من خزائن حكمته عاجلاً ، وهي مختصة بمشيئة إلا مشيئة الخلق كما ظن الفلاسفة والأطباء ، فإنه تبارك وتعالى : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 269 ] . فظن قوم أن الحكمة مما يحصل بمجرد التكرار وهي نتائج الأفكار ، وما فرقوا بين المعقولات والحكميات والإلهيات ، فالمعقولات مشتركة بين أهل الدين وأهل الكفر ، وبين المقبول والمردود ، فالمعقول ما يحكم عليه ببرهان عقلي ، وهذا ميسر لكل عاقل بالدراية وبالقوة ، فمن صفي عقله عن شوائب الوهم والخيار بدرك عقله المعقول بالبرهان ورأيه عقلية ، ومن لم يصف العقل عن هذه الآفات ، فهو يدرك المعقول قراءة بتفهيم أستاذ مرشد ، فإن الحكمة ليست من هذا القبيل ، فإن العقول عن دركها بذواتها محتسبة ، والبراهين العقلية والنقلية عنها مخنسة ، فإنها مواهب ترد على قلوب الأنبياء والأولياء عند تجلي صفات الجمال والجلال ، وفناء أوصاف الخلقية لشواهد صفات الخالقية ، فيكاشف الأسرار بحقائق معانٍ أورثتها تلك الأنوار ، ستر البشر وإضمار بإضمار ، فإمارة صحتها معادلتها لحقائق القرآن ، بل هي عين حقائق القرآن ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " أوتيت القرآن وما يعدله " ، أشار بهذه إلى الحكمة ، ولهذا قال سهل رضي الله عنه في تأويل الحكمة : هي السنة ، فحقيقة الحكمة نور من أنوار صفات الحق ، يؤيد الله به عقل من يشاء من عباده ، فيكون له كما قال : { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } [ النور : 35 ] ، فمن أكرم بهذا النور فقد أوتي كل حبور وسرور ، وأوتي مع الحكمة خيراً كثيراً ، كما قال تعالى : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] ؛ يعني : لذلك النور فوائد وخيرات كثيرة ، فمن جملتها الحكمة ، فمن يؤت الحكمة فقد أعطي ذلك النور { فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] ، فافهم جدّاً . واغتنم واجتهد أن تتعظ به وتكون من ذويه ؛ لأنه تعالى : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [ البقرة : 269 ] ؛ وهم الذين لم يقنعوا بقشور العقول الإنسانية ، بل سعوا في طلب لبُّها بمتابعة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فأخرجوهم من ظلمات قشور العقول الإنسانية إلى نور لُب المواهب الربانية ، فتحقق لهم أن { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] ، فانتبه أيها مغرور المفتون بدار الغرور ، { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } [ لقمان : 33 ] . ثم أخبر عن توفية الأجور للمتفق في الفروض والنذور بقوله تعالى : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [ البقرة : 270 ] ، الإشارة فيها : أن تقرب العبد إلى الله إنما يكون بفرض أوجبه عليه أو بنقل أوجبه العبد على نفسه ، فعلى كلا التقديرين إن الله عليم بهما ، فيجازي العبد بهما ، كما قال تعالى في حديث رباني : " لن يتقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم ، ولا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً ، فبي يسمع وبي يبصر ، وبي ينطق وبي يبطش " ، ولكن الشأن في إخلاص العمل لله تعالى من غير شوبة بعلة دنيوية أو أخروية ، فإنها شرك ، { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] . فقوله تعالى : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ } [ البقرة : 270 ] ؛ أي : مفروضة ، { أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ } [ البقرة : 270 ] ؛ أي : من نقل أوجبتموه على أنفسكم ، فإن الله يعلم إنكم تقربتم به إلى الله خالصاً مخلصاً بلا شَوبة بشرك أم لا ، فإن كان غير مشوب بشرك فيجازيكم بجزاء المخلصين ، وإن كان مشوباً بشرك فأنتم ظلمتم بوضع طاعة الله في غير موضعها ، { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ } [ البقرة : 270 ] ؛ يعني : الظلم منكم ، { وَمَا لِلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 270 ] ، من أشار بأن يتقرب إليهم بأنواع ألطافه ؛ لأنهم ما تقربوا إليه بطاعتهم ، ومن سنة ما قال : " من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً " .