Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 274-277)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } [ البقرة : 274 ] ، فإذا نفذ المال لم يفتروا عن شهوده لحظة ليلاً ونهاراً ، بل { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام : 52 ] ، { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [ البقرة : 274 ] ؛ يعني : في مقام العندية { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 55 ] ، { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [ البقرة : 274 ] ، من عذاب القطيعة ؛ لأنهم قد استمسكوا بالفقر والمحبة ؛ وهي العروة الوثقى ، { لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا } [ البقرة : 256 ] ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 274 ] ، عاجلاً وآجلاً : فأما عاجلاً : فلا يحزنون على ما يفوتهم من الدنيا ، فإنهم تركوها بطيب قلوبهم في الله ، وهو لهم خلف عن كل تلف من كان الله له ، وأما آجلاً : كما قال تعالى : { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [ الأنبياء : 13 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " كأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، إن ربنا لغفور شكور " . ثم أخبر عن حرص أهل الدنيا وهم : أكلة الربا ، بعد ما ذكر قناعة أهل الآخرة وشكر المولى بقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَٰواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ } [ البقرة : 275 ] ، الإشارة فيهما : أن آكل الربا يحرص على الدنيا ، مثله كمثل من به جوع الكلب فيأكل ولا يشبع ، حتى ينتفخ بطنه ويثقل عليه فلا يقدر عليه أن يقوم ، { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ } [ البقرة : 275 ] ؛ يعني : إلا كما يقوم المصروع ، وكلما يقوم يصرعه نقل بطنه ، وهذا كمثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للحريص ، لقوله : " إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ إِنَّ كُلَّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطاً ، أَوْ يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضِرِ تَأْكُلُ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ ، فَاجْتَرَّتْ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ، ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ " ، حديث متفق على صحته ، وفيه مثلان : ضرب أحدهما : للحريص المفرط في جميع الدنيا ومنعها من حقها ، والآخر : ضرب للمقصد في أخذها والانتفاع بها ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " ينبت الربيع وما يقتل حبطاً " ، فهو مثل للحريص الذي يأخذها بغير حق ، وذلك أن الربيع ينبت أنواع العشب فيستكثر منها الماشية حتى ينتفخ منها بطونها ، كما قد جاوزنا حد الاحتمال فيشق أمعاؤها فيهلك ، كذلك الحريص الذي يجمع الدنيا من حلها ويمنع ذا الحق حقه ، فينتفخ بطنه يوم القيامة وهو آكل الربا ، فلا يقوم ويكون عاقبته النار ، وأما مثل المقصد قوله : صلى الله عليه وسلم " إلا أكلة الخضرة " ، وذلك أن الخضرة ليست من إضراب البقول التي ينبتها الربيع فيستكثر منها الماشية ، ولكنها من كلأ الصيف التي ترعها المواشي بعد هيج العقول شيئاً فشيئاً من غير استكثار ، فضرب مثلاً لمن يقتصد في أخذ الدنيا ولا يحمله الحرص المفرط على أخذها بغير حقها ، وإن كان له حرص مثلاً من الطلب والجمع ، ولكن لما كان بأمر الشرع وطريقه ولا يمنع ذا الحق حقه ما أضر به كما أضر بأكل الربا ، كقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَٰواْ } [ البقرة : 275 ] ؛ يعني : في طلب الربح والزيادة . وقال تعالى : { وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَٰواْ } [ البقرة : 275 ] ؛ يعني : كيف يكون ما أحل الله وأزال الأمر ظلمته إفراط الحرص منه ، مثل ما حرم الله وزاد في ظلمة الحرص الذي فيه عصيان الأمر ، فمن ارتكبه بالربا يكون في ظلمات ثلاثة { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } [ النور : 40 ] ، ظلمة الحرص ، وظلمة الدنيا ، وظلمة المعصية ، { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } البقرة : 275 ] ، بالقرآن والأخبار وإلهام الحق { فَٱنْتَهَىٰ } [ البقرة : 275 ] ، يتوب إلى الله ويرجع من الربا ، { فَلَهُ مَا سَلَفَ } [ البقرة : 275 ] ، من المعصية فتجاوز عنه الحق . { وَأَمْرُهُ إِلَى ٱللَّهِ } [ البقرة : 275 ] ، بأن يرزقه بدل الربا من حيث لا يحتسب { وَمَنْ عَادَ } [ البقرة : 275 ] ، إلى شؤم فعاله ومذموم خصاله ، وأعرض عن الحق ومقاله ، واستحل ما حرمه وأقبل على ما احترمه ، { فَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 275 ] ، فلينتظروا وشيك الاستئصال ، وفجأة النكال { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَٰواْ } [ البقرة : 276 ] ، إذا أسرع فيه بمتابعة الهوى ، { وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَٰتِ } [ البقرة : 276 ] والبركات ؛ لأنها معروفة بالخيرات على وفق المأمورات ، { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ } [ البقرة : 276 ] ، بنعمة الشرع وأنواره ، { أَثِيمٍ } [ البقرة : 276 ] ، عامل بالطبع مقيم في ظلمة إصراره . ثم أخبر عن العالمين بالشرع والخارجين عن الطبع بقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 277 ] ، { آمَنُواْ } [ البقرة : 277 ] ، إيمان التصديق بالتخفيف مقروناً بالتوفيق ، { وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ } [ البقرة : 277 ] ، خرجوا بقدم العبودية على وفق الربوبية من ظلمات الطبع إلى أنوار أركان الشرع ، فكان من خصائص ظلمات الطبع البشري ، إتباع الهوى ، والركون إلى الدنيا ، فخرجوا عن ظلمة إتباع الهوى بإقامة الصلاة واقتراب المولى ، { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } [ البقرة : 277 ] ، فاستغرقوا بنور الحضور وعالجوا ظلمة الركون إلى الدنيا بأنوار إيتاء الزكاة والفطام عن المألوفات ، { وَآتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ } [ البقرة : 277 ] ، فجذبتهم العناية عند سفل عندية البشرية إلى ذروة عندية الربوبية ، { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [ البقرة : 277 ] ، من الرجوع إلى الظلمات الطبيعة ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 277 ] ، بعد الخروج إلى أنوار الشريعة .