Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 278-281)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فلما أخبر عن أهل الإيمان الحقيقي ومعاملاتهم ، أخبر عن أهل الإيمان المجازي وامتحانهم بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 278 ] ، والإشارة فيها : أن من شروط المؤمن الحقيقي اتقاؤه بالله في ترك زيادات لا يحتاج إليها في أمر الدين ، بل تكون شاغلة له عن الترقي في مراتب الدين ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " . فقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ البقرة : 278 ] ؛ أي : الذي يدعون الإيمان { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [ البقرة : 278 ] ؛ أي : اتقوا الله ، وهذا كما جاء لنا إذا حمي البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي : جعلناه قدامنا ، { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ } [ البقرة : 278 ] ، إشارة إلى ترك ما سوى الله في طلبه ، كما قال الله تعالى : { ثُمَّ ذَرْهُمْ } [ الأنعام : 91 ] ، { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 278 ] ، بإيمان حقيقي ، وتوقنون بأن الله خلقكم لنفسه ، كما قال : { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } [ طه : 41 ] ، وما خلقكم لشيء وخلق كل شيء لكم ، لقوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] . { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } [ البقرة : 279 ] ؛ أي : إن لم تزكوا كل زيادة تمنعكم من الله ، ولم تتقوا عنها بالله { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 279 ] ، في طلب غير الله { وَإِنْ تُبْتُمْ } [ البقرة : 279 ] ؛ أي : رجعتم إلى الله وتركتم غيره { فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ } [ البقرة : 279 ] ، وهي الكرامة التي أكرمكم بها على العالمين قبل وجودكم ، كما قال : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ } [ الإسراء : 70 ] ، وأعطاكم رأس مال ما أعطي لأحد من خلقه ولا الملائكة المقربين ، وهو قوله تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، فإذا تقربتم إليه بترك ما سواه ، يتقرب إليكم برد رؤوس أموالكم الأصلية إليكم وهي المحبة ، كقوله تعالى : " لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " ، قوله تعالى : { لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة : 279 ] ؛ يعني : خلقتكم لتحبوني وأحبكم ، فإذاً لا تظلمون بوضع محبتي في غير موضعها من المخلوقات ، ولا تظلمون بوضع محبتكم في غير موضعها ، فافهم جدّاً . { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] ؛ يعني : وإن كان في وصول ما عدا الله لكم عاجلاً عسرة { فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] ؛ أي : معدة لكم إلى أوان الميسر يصل إليكم آجلاً ، كما قال تعالى : { سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } [ الطلاق : 7 ] ، وقال تعالى : { فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } [ الشرح : 5 ] ، { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } البقرة : 280 ] ؛ يعني : ما تتمنون من أنواع برنا في الدنيا والعقبى على قدر همتكم الإنسانية ، فإن تصدقوا بها ببذلها فهو خير لكم ، لأنَّا نجازيكم على قدر مواهبنا الربانية ، إن كنتم تعلمون قدرها وتتقون بنا ، كما قال تعالى : " من شغله ذكر عن مسألتي أعطيته فوق مسألة السائلين " { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3 ] . ثم أخبر عن الرجوع من المولى وأكد للتزود أمر التقوى بقوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } [ البقرة : 281 ] ، والإشارة فيها : أن الله تعالى جمع في هذه الآية خلاصة ما في القرآن وجعلها حاملة الوحي والإنزال ، كما أنه جمع خلاصة ما أنزل من الكتب على الأنبياء في القرآن وجعله خاتم الكتب ، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء - عليهم السلام - وقد جمع فيه أخلاق الأنبياء ، ثم نقول : إن علم خلاصة جميع الكتب المنزلة وفائدتها بالنسبة إلى الإنسان عائدة إلى معنيين : أحدهما : نجاته من الدركات السفلى ، وثانيها : فوزه بالدرجات العلا ، فنجاته في خروجه عن معائب النفس ، وفوزه في ترقيه على الدرجات العلا وهي ثمانية : المعرفة ، والتوحيد ، والعلم ، والطاعة ، والأخلاق الحميدة ، وجذبات الحق ، والفناء عن أنانيته ، والبقاء بهويته . فهذه الآية تشير إلى مجموعها إجمالاً قوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ } [ البقرة : 281 ] ، هي لفظه شاملة لما يتعلق بالسعي الإنساني من هذه المعاني ؛ لأن حقيقة التقوى مجانبة ما يبعدك عن الله تعالى ومباشرة ما يقربك إليه ، دليله قول النبي صلى الله عليه وسلم إجماع التقوى في قول الله عز وجل : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ } [ النحل : 90 ] ، فيندرج تحت التقوى على هذا المعنى الخروج عن الدركات السفلى والترقي على الدرجات العلا ، فتقوى العوام : الخروج عن الكفر بالمعرفة ، وعن الشرك بالتوحيد ، وعن الجهل بالعلم ، وعن المعاصي بالطاعات ، وعن الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة ، هاهنا ينتهي سير العوام ؛ لأنها نهاية كسب الإنسان وغاية جهد المجتهدين في إقامة شرائط جاهدوا فيها . فمن هنا تقوى الخواص المجذوبين بجذبات ، { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] ، فتخرجهم الجذبة من حجب أوصافهم إلى درجة تجلي صفات الحق ، فهاهنا ينقضي سلوك الخواص فيستظلون بظل { عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } [ النجم : 14 - 15 ] ، فينتفعون من مواهب ، { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } [ النجم : 16 ] ، وأما تقوى خاص الخاص : فبجذبة فرقت العناية بجذبة { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } [ النجم : 17 ] ، من سدرة المنتهى الأوصاف إلى { قَابَ قَوْسَيْنِ } [ النجم : 9 ] ، نهاية محن النفس وبداية أنوار القدس ، فهناك من عرف نفسه فقد عرف ربه ، فتقوى الحقيقي تجد الإيمان الحقيقي ، فالآن { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ } [ البقرة : 257 ] ، من ظلمات الأنانية إلى نور الهوية ، وهو مقام أو أدنى . ثم بسير { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ } [ النجم : 10 ] يفنيه عنه ، وبحقائق ما أوحى يبقيه بهويته ، فقوله { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } [ البقرة : 281 ] ، يشير إلى هذه الحقائق معناه : { وَٱتَّقُواْ } [ البقرة : 281 ] جاهدوا فينا بجهدكم وطاقتكم ، { يَوْماً } [ البقرة : 281 ] ؛ يعني : اليوم فيه لنهدينكم بجذبات العناية { تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } [ البقرة : 281 ] ، أشار بلفظ الرجوع إليه ؛ ليعلم أن الشروع كان منه ، كما قال تعالى : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] ، فبدء وجودك كان بالنفخة ، وأخر رجوعك بالجذبة ، وأنت محمول العناية بين النفخة والجذبة ، ولقد اصطفى آدم وكرم أولاده بهذا الاختصاص على البرية كلها ، وقال : { أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } [ البينة : 7 ] . وفي قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [ الإسراء : 70 ] ، سر عظيم أنه قال تعالى : { بَنِي ءَادَمَ } [ الإسراء : 70 ] ، ما قال أولاد آدم ، واختص الرجال بالذكر دون النساء ؛ يعني : أهل الكرامة من يوصف بوصف الرجال لا بوصف النساء ، ثم وصف الرجال بقوله تعالى : { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [ النور : 37 ] ، فمن لم يكن بهذا الوصف فهو من النساء في المعنى . ثم في قوله : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ البقرة : 281 ] ، وعد وبشارة للأولياء ، ووعيد وإنذار ، فإن الجذبة في قوله تعالى : { تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } [ البقرة : 281 ] ، شاملة لكلتا الطائفتين ، إلا أنها للأولياء جذبة اللطف والعناية ، وللأعداء جذبة القهر والخذلان ، فقال لأهل العناية : { نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ } [ الأنعام : 83 ] . وقال لأهل الخذلان : يسبحون في النار على وجوههم ، وقوله تعالى : { ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } [ البقرة : 281 ] ، فهو بشارة لأهل العناية ؛ يعني : لما يرجعون إلى الله ، فبقدر راحتها ، وكل واحد منهم وحده في كسب العبودية بالتقوى يهدي إلى مقامات القرب بإفناء حجاب نفسه عنه ، وبإبقائه ببقاء هويته ، { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ البقرة : 281 ] ، وهذا كما أن من سعي في نقب جدار بيته إلى جهة الشمس ليخرج بنور الشمس ظلمة بيته ، فلما فتح الروزنة على قدر ضوء النور يخرج الظلمة من البيت ضرورة ، فلا تظلم الشمس عليه مثقال ذرة ، وفيه تهديد وإنذار لأهل الخذلان إذا استهواهم الشيطان فلم يسلكوا طريق التقوى واتخذوا آلهتهم الهوى ، فلما يرجعون إلى الله بالسلاسل والأغلال يسبحون على وجوههم في سلسلة زرعها سبعون زراعاً ، بالإهانة والإذلال ، { ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } [ آل عمران : 161 ] ، في متابعة الهوى وطلب شهوات الدنيا بأن يصلى النار الكبرى ، { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ } [ طه : 74 ] ، وهم لا يظلمون ؛ لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الدرجات العلا ، وقربة حضرة المولى { فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ } [ النازعات : 25 ] .