Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 30-35)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن الآيات مما في الأرض والسماوات بقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } [ الأنبياء : 30 ] يشير إلى أن أرواح المؤمنين والكافرين خلقت قبل السماوات والأرض كما قال صلى الله عليه وسلم : " أنه تعالى خلق الأرواح وكانت شيئاً قبل الأجساد بألفي عام " ، وفي رواية : " بأربعة آلاف سنة " وكان خلق السماوات والأرض بمشهد من الأرواح وكانتا شيئاً واحداً كما جاء في الحديث المشهور : " أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بنظر الرحمة ، فبحمد نصفها فخلق منه العرش فارتعد العرش ، فكتب الله تعالى : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فسكن العرش وترك الماء على حالته يرتعد إلى يوم القيامة ، وذلك قوله تعالى : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ } [ هود : 7 ] " وفي رواية ابن عمران بن حصين : " وكان عرشه على الماء ، ثم خلق السماوات والأرض " أي : ثم من تلاطم أمواجه صعدت أدخنة ، وارتفع بعضها متراكماً على بعض ، وكان لها زبد فخلق منها السماوات والأرض طباقاً ، وكانتا رتقاً فخلق الريح منها فتق بين أطباق السماء وأطباق الأرض . كما أخبر بقوله تعالى : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [ فصلت : 11 ] وإنما خلقها من دخان ولم يخلقها من بخار ؛ لأن الدخان خلق متماسك الأجزاء يستقر في منتهاه ، والبخار من كمال عمله وحكمته ، ثم بعد ذلك مدَّ الزبد على وجه الماء ودحاه فصار أرضاً بقدرته ، وذلك قوله تعالى : { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] ثم نظر إليها بعين الرحمة فجمدت كما جاء في الحديث قوله : " فبحمد بعضها " وهو التذلل في قوله تعالى : { جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً } [ الملك : 15 ] وأشار إلى هذه الجملة بقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [ الأنبياء : 30 ] في قوله تعالى : { جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ } [ الملك : 15 ] { كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } [ الأنبياء : 30 ] . وبقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] يشير إلى أنه خلق حياة كل ذي حياة من الحيوانات من الماء الذي عرشه ، وذلك أن الجوهرة التي هي مبدأ الموجودات هو الروح الأعظم خلقت أرواح الإنسان والملك من أعلاها ، وخلقت أرواح الحيوان والدواب من أسفلها ، وهو الماء كما قال تعالى : { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } [ النور : 45 ] وكان ذلك كله بمشهد من الأرواح ولذلك قال تعالى : { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنبياء : 30 ] أي : أفلا يؤمنون بما خلقنا بمشهد من أرواحهم . وبقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ } [ الأنبياء : 31 ] يشير إلى : الأبدال الذين هم أوتاد الأرض وأطوارها ، فأهل الأرض بهم يرزقون وبهم يمطرون { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } [ الأنبياء : 31 ] أي : وجعلنا في إرشادهم الفجاج والسبل إلى الله تعالى { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [ الأنبياء : 31 ] بهم إلى الله تعالى . { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ } [ الأنبياء : 32 ] سماء القلب { سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [ الأنبياء : 32 ] من وساوس شياطين الجن والإنس { وَهُمْ } [ الأنبياء : 32 ] أي كافر النعمة { عَنْ آيَاتِهَا } [ الأنبياء : 32 ] عن رؤية آياتها التي أودعنا فيها من الدلائل والبرهان والأسرار والحكم البالغة التي بها يهتدي وعن التفكر فيها { مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 32 ] ؛ لأنهم أقبلوا بكليتهم إلى الدنيا ، وطلب زخارفها والتلذذ بشهواتها ، وأعرضوا عن الله وشكر نعمه ، والقيام بعبوديته . { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ } [ الأنبياء : 33 ] ليل النفس الظلمانية { وَٱلنَّهَارَ } [ الأنبياء : 32 ] نهار القلب المضيء { وَٱلشَّمْسَ } [ الأنبياء : 32 ] وهي شمس نور الله الذي نور الله به قلوب أوليائه { وَٱلْقَمَرَ } [ الأنبياء : 33 ] وهو نور الإسلام الذي شرح الله به صدور المؤمنين ، وجعل بضوئه نفوسهم قرأ { كُلٌّ } [ الأنبياء : 33 ] من أهل الإسلام ، وأهل الإيمان ، وأهل الولاية { فِي فَلَكٍ } [ الأنبياء : 33 ] أفلاك أطوار القلب { يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] يبحرون ويسلكون . ثم أخبر عن الرحلة من دار الفناء إلى دار البقاء بقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ } [ الأنبياء : 34 ] يشير إلى أنه ليس من شأنه أن يخلد آدمياً في الدنيا ، وإن كانا قادرين على تخليده { أَفَإِنْ مِّتَّ } [ الأنبياء : 34 ] يا محمد كما هو من سنتنا { فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ } [ الأنبياء : 34 ] في الدنيا بقدرتنا ، بل أنت ميت وهم ميتون كما هو من سنتنا دليله قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] . وبقوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } [ الأنبياء : 35 ] يشير إلى أن من الحكمة البالغة والنعمة السابغة أنه جمع في طينة الإنسان ما أفرد به الملائكة بروح نوراني علوي باق أبدي ، وأفرد الحيوانات بروح حيواني سفلي فانٍ ، فأفرد الإنسان بتركيب الروحين فيه فانٍ حيواني وباقٍ ملكي ، فالحكمة في ذلك : أن الروح الملكي غير متغذ ، وإنما بقاؤه بالتسبيح والتقديس وهو بمثابة النفس للحيوان ، ولهذا ليس للملك الترقي من مقامه والروح الحيواني قابل للترقي ؛ لأنه متغذ ، فجعل الله الإنسان مركباً من الروحين ؛ لينقطع روحه الملكي بطبع روحه الحيواني المتغذي ، وقبول الفناء الذي يعبر عنه بالموت ؛ ليصير مترقياً كالحيوان ، وينطبع روحه الحيواني بطبع روحي الملكي ؛ ليصير مسبحاً ومقدساً كالملك باقياً بعد المفارقة بخلاف الحيوانات ؛ ولكن من اختصاص الروح الحيواني في التغذي : أن يجعل الغذاء جنس المتغذي ، ويلونه بلونه ، وصفته الروح الإنساني أن يكون متلوناً بلون الغذاء ومتصفاً بصفته ؛ وذلك لأن غذاء الروح الحيواني الطعام والشراب ، وهي من الجماد والنبات والحيوان المذبوح المطبوخ فيهما الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة مركوزة بالطبع ، والروح الحيواني غالب عليها ومتصرف فيها بالطبع فيجعلها من جنس المتغذي ، وغذاء الروح الإنساني ذكر الله وطاعته ، والشوق والمحبة إلى لقائه الكريم ، وفيه النور والجذبة الإلهية وهي غالباً على الروح ؛ فالروح يتجوهر بجوهرها ، وفي الجوهرة بجوهر النور الرباني نوع من الفناء عن وجوده والبقاء بنور ربه ، فهو بمثابة ميت ذاق الموت ، ثم أحيي بنور ربه ، كما قال الله تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [ الأنعام : 122 ] فهذا الموت الذي استحق به الروح الإحياء بنور الله إنما استقاه من النفس الحيوانية التي هي ذائقة الموت ، فافهم جيداً . وبقوله تعالى : { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] يشير إلى أنا نبلوكم بالمكروهات التي تسمونها شراً وهي : الخوف والجوع والنقص من الأموال والأنفس والثمرات ، وأنه فيها موت النفس وحياة القلب ، ونبلوكم بالمحبوبات التي يسمونها الخير وهي : { ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ } [ آل عمران : 14 ] وفيها حياة النفس وموت القلب ، وكلتا الحالتين ابتلاه ، فمن صبر على موت النفس على صفاتها بالمكروهات وعن الشهوات فله البشارة بحياة القلب واطمئنان النفس ، وله استحقاق الرجوع إلى ربه بجذبة : { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } [ الفجر : 28 ] للطف ، كما قال الله تعالى : { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] فيصير ما يحسبه الشر خيراً ، كما قال تعالى : { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] ومن لم يصبر على المكروهات وعن الشهوات المحبوبات ، ولم يشكر عليها بأداء حقوق الله تعالى فله العذاب الشديد من كفران النعمة ، ويصير ما يحسبه الخير شراً كما قال تعالى : { وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] فيرجع إلى الله بالقهر في السلاسل والأغلال .