Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 8-17)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن أحوالهم بقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً } [ الأنبياء : 8 ] إلى قوله : { إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 17 ] { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ } [ الأنبياء : 8 ] يشير إلى الأنبياء والأولياء خلقوا محتاجين إلى الطعام بخلاف الملائكة ، وذلك لا يقدح في النبوة والولاية ، بل هو من لوازم أحوالهم وتوابع كمالهم ، فإن لهم فيه فوائد جمة : * منها : أن الطعام للروح الحيواني الذي هو مركب الروح الإنساني كالدهن للسراج ، وهو منبع جميع الصفات النفسانية الشهوانية ، وهي مركب الشوق والمحبة التي بها يقطع السالك الصادق المسالك البعاد ، ويَعْبُر المحب العاشق مهالك الفراق للوصول إلى كعبة الوصال . * ومنها : أن أكل الطعام من نتائج الهوى ، وهي ميل النفس إلى مشتهياتها والسير إلى الله تعالى بحسب نهي النفس عن الهوى لقوله تعالى : { وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [ النازعات : 40 - 41 ] ولهذا قال المشايخ : لولا الهوى ما سلك أحد طريقاً إلى الله تعالى . * ومنها : أن من علم الأسماء التي علم الله آدم منوط بأكل الطعام مثل : علم ذوق المذوقات ، وعلم التلذذ بالمشتهيات ، وعلم لذة الشهوة ، وعلم لذة الجوع والعطش ، وعلم الشبع والرِّي ، وعلم هضم الطعام ، وعلم الصحة والمرض ، وعلم الداء والدواء وأمثاله ، والعلوم التي تتعلق به كعلوم الطب بأجمعها ، والعلوم التي هي من توابعها كمعرفة الأدوية والحشائش وخواصها وطبائعها وغيرها ، اقتصرنا على هذا القدر من الفوائد الجمة ، فافهم جيداً . قوله تعالى : { وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ } [ الأنبياء : 8 ] إشارة إلى كثير من الفوائد فيقتصر على سمة منها وهي : كما أن المميت ، وعلم اسم المحيي مودع في الإماتة والإحياء { وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ } [ الأنبياء : 8 ] ليموتوا أو يتعلموا من المميت اسم المموتة وصفتها على التحقيق لا على التقليد ، وليحيوا ويتعلموا من المحيي اسم المحيوية ، وصفاتها إن شاء الله تعالى . { ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ ٱلْوَعْدَ } [ الأنبياء : 9 ] يشير إلى الوعد الذي وعدهم حين أهبطهم إلى الأرض بقوله تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [ البقرة : 38 ] { فَأَنجَيْنَاهُمْ } [ الأنبياء : 9 ] أي : الذين اتبعوا وعدهم حين هداي من الدرك الأسفل الحيوانية إلى أعلى عليين مقامات القرب ، وأكرمناهم بالوصول والوصال وهم الأنبياء والأولياء { وَمَن نَّشَآءُ } [ الأنبياء : 9 ] أي : من المؤمنين الذين لم يبلغوا درجة الأنبياء والأولياء { وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرفِينَ } [ الأنبياء : 9 ] الذين أسرفوا على أنفسهم بالسير إلى أسفل سافلين على قدمي متابعة الهوى ومخالفة الشرع وقنطوا من رحمة الله ، ولم يتوبوا من الشرك والعصيان ، ولم يرجعوا إلى الحضرة على الطاعة في المتابعة ومخالفة الهوى ، ثم من على أهل الهداية والنجاة بما فيه هداهم فقال الله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] أي : فيه ذكركم بالهداية والنجاة ونيل الفضل والدرجات كما قال الله تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } [ الفتح : 29 ] أفلا تعقلون وتعلمون فضل الله عليكم ، ورحمته بإنزال الكتاب إليكم لتهتدوا به { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ البقرة : 64 ] المسرفين الهالكين . { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ } [ الأنبياء : 11 ] أي : أهلكنا أهل قرية { كَانَتْ ظَالِمَةً } [ الأنبياء : 11 ] بالإسراف على أنفسهم { وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } [ الأنبياء : 11 ] المعتبرين بهم { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } [ الأنبياء : 12 ] يعني : الظالمين الغافلين { إِذَا هُمْ مِّنْهَا } [ الأنبياء : 12 ] أي : من شدة بأسنا { يَرْكُضُونَ } [ الأنبياء : 12 ] يفرون ، ثم قال الله تعالى مع أرواحهم : { لاَ تَرْكُضُواْ } [ الأنبياء : 13 ] أي : لا تفروا منها ، بل فروا إلينا { وَٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ } [ الأنبياء : 13 ] نعمتم فيه من التنعمات الروحانية الروحانية التي كنتم فيها { وَمَسَاكِنِكُمْ } [ الأنبياء : 13 ] الروحانية في جوار الحق قبل هبوطكم إلى أرض البشرية ، وأسفل سافلين القالب . { لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 13 ] عزة وكرامةً لكم . { قَالُواْ يٰوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [ الأنبياء : 14 ] بأن سرنا في إبطال استعداد صفاء الروحانية ، وتحصيل ظلمة صفات النفسانية بتتبع شهوات الحيوانية واستيفاء اللذات الحسية { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ } [ الأنبياء : 15 ] بالويل والثبور { حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ } [ الأنبياء : 15 ] أي : جعلنا أرواحهم { حَصِيداً خَامِدِينَ } [ الأنبياء : 15 ] أي الجمادات الميتين المعذبين بنار القطيعة والحرمان . { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ } [ الأنبياء : 16 ] أي : سماوات الأرواح وأرض الأجساد { وَمَا بَيْنَهُمَا } [ الأنبياء : 16 ] من النفوس والقلوب والأسرار { لَـٰعِبِينَ } [ الأنبياء : 16 ] وإنما خلقناهما مظهر صفات لطفنا وقهرنا { لَوْ أَرَدْنَآ } [ الأنبياء : 17 ] في الأزل { أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً } [ الأنبياء : 17 ] أي : أهلاً وولداً مما خلقنا { لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ } أي : مما يصلح أن يكون عندنا لا مما يكون عندكم ؛ لأن { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } [ النحل : 96 ] { إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 17 ] أي : إن كنا ممن يتخذ أهلاً وولداً عز وجل قدس حضرتنا عن أمثال هذه التدنسات ، وعز جناب كبريائنا عن أنواع هذه التوهمات ، وقد تنزه عن أمثالها الملائكة المقربون وهم عبادنا المكرمون ، فالحضرة الخالقية أولى بالتنزه .