Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 13-22)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم قال الله تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } [ المؤمنون : 13 ] أي : قطرة أجزاءها متماثلة ونطفة أبعاضها متشاكلة ، ثم بإظهار القدرة تصرف في النطفة فجعلها علقة فقال : { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً } [ المؤمنون : 14 ] يشير إلى أن لكل خلقة رتبة في النطفة خاصية وطبيعة أخرى ، وجعل بعضها لحماً وعظماً ، وبعضها شعراً ، وبعضها ظفراً ، وبعضها عصباً ، وبعضها جلداً ، وبعضها مخاً ، وبعضها أمعاء ، ثم خص كل عضو بهيئة مخصوصة ، وكل جزء بكيفية معلومة ، ثم الصفات التي للإنسان خلقها متفاوتة من السمع والبصر والنطق والفكر والغضب والقدرة والعلم والإرادة والشجاعة والحسد والحرص والجود ، والأوصاف الكثيرة التي يتقاصر عنها الحصر والعد ، فتدل هذه الأحوال المختلفة صورة ومعنى في الأطوار المختلفة صورة ومعنى . { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] بنفخ الروح فيه يعني خلقاً غير المخلوقات التي خلقها قبله ، وهو أحسنهم تقويماً وأكملهم استعداداً وأجلهم كرامة وأعلاهم رتبة وأدناهم قربة وأخصهم فضيلة ؛ فلهذا أثنى على نفسه عند خلقه بقوله تعالى : { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ] يعني : لأنه خلق أحسن المخلوقين فيما جعلهم معدن العرفان وموضوع المحبة ومتعلق العناية ، فإنه لما خلق السماوات والأرضين والعرش والكرسي مع المخلوقات من الجنة ومتعلق العناية ، فإنه من الجنة والنار لم يعقبهما بهذا التمدح الذي ذكر بعد نعت خلقه بني آدم تخصيصاً لهم من بين المخلوقات { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ } [ المؤمنون : 15 ] يشير إلى أن الإنسان بعد بلوغه إلى الرتبة الإنسانية قابل للموت مثل موت القلب وموت النفس ، وقابل لحشرهما وفي موت القلب حياة النفس وحشرها مودعة ، وفي موت النفس حياة القلب وحشره مودع ، وحياة النفس بالهوى وظلمته ، وحياة القلب بالله ونوره ، كما قال الله تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [ الأنعام : 122 ] وهذا معنى حقيقة قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 16 ] . وبقوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ } [ المؤمنون : 17 ] يشير إلى أن أطباق السماوات كما هي حجب تحول بين أبصارنا وبين المنازل العالية من العرش الكريم ، كذلك أطوار القلب سبعة هي أغشيتها وحُجبها ، كالغضب والشهوة والإرادات الشاغلة ، والغفلات المتراكمة . أما المريدون : فإذا أظلم سحاب الفطرة سكن هيجان إرادتهم ، فذلك من الطريق التي عليهم . وأما الزاهدون : فإذا تحركت عروق الرغبة اهتزت قوة زهدهم وضعف دعائم صبرهم ، فيترخصون بالجنوح إلى بعض التأويلات فتعود فتراتهم قليلاً قليلاً وتختل رتبة عرفهم وتتهدم دعائم قصدهم ، فبداية ذلك من الطريق التي خلق فوقهم . وأما العارفون : فريثما يظلهم في بعض أي : بينهم وقفة في تصاعد سرهم إلى ساحات الحقائق فيصيرون موقونين وربما يتفضل الحق سبحانه عليهم بكفاية ذلك فيجدون نفاذاً أو يرفع عنهم ما عاقهم في الطريق ، وفي جميع هذا فالحق سبحانه غير تارك للعبد ولا عن الخلق . كما قال الله تعالى : { وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَافِلِينَ } [ المؤمنون : 17 ] فلمصالح المقبولين وجبر خللهم { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ } [ المؤمنون : 18 ] سماء العناية { مَآءً } الرحمة { بِقَدَرٍ } [ المؤمنون : 18 ] أي : بحسب حاله كل واحد منهم { فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ } [ المؤمنون : 18 ] أي : في أرض وجودهم ، ثم أخرجنا منها ينابيع الحكمة بتأثير نظر العناية { وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَٰدِرُونَ } [ المؤمنون : 18 ] بالإعراض عنهم ، كما أنزلنا من السماء ماء المطر الذي هو سبب حياة الأرضين كذلك من سماء العناية وماء الرحمة فيحيي به القلوب ، ويزيل به درن العصاة وآثار ذلتهم ، وينبت في أرض قلوبهم فنون أزهار البسط وصنوف الروح . وبقوله تعالى : { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [ المؤمنون : 19 ] يشير إلى أن كما ينشئ الفياض بماء السماء ويثمر الأشجار ويجري الأنهار ، فكذلك بماء سماء العناية ينشئ شجرة العرفان ويؤتي أكلها من الكشف والعيان ما تتقاصر العبارات عن شرحه ولا تطمع الإشارات في حصره . { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ } [ المؤمنون : 20 ] وهي شجرة الحق الذي يخرج من طور سيناء الروح بتأثير تجلي أنوار الصفات { تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ } [ المؤمنون : 20 ] وهو حسن الاستعداد لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة ، ومقر هذا الدُّهن هو الخفي الذي فوق الروح وهو سر بين الله وبين الروح لا تطلع عليه الملائكة المقربون { وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } [ المؤمنون : 20 ] أي : وهو إدام لآكلي الكونين بقوة الهمة . ثم أخبر عن عبرة الخواص والعوام في خلق الأنعام بقوله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا } [ المؤمنون : 21 ] يشير إلى أنه كما يخرج من بطون الأنعام من بين فَرث ودَم لبناً خالصاً ، وفيه عبرة لأولي الأبصار فكذلك من بين فرث الصفات النفسانية وبين دم الصفات الشيطانية لبناً خالصاً من التوحيد والمحبة ؛ ليسقي به أرواح الصديقين كما قال بعضهم : @ سقاني شربةً أحيا فؤادي بكأس الحبِّ من بحرِ الودادِ @@ وفيها عبرة لأولي الأبصار { وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ } [ المؤمنون : 21 ] من الأخلاق الكريمة الربانية والمعارف العظيمة الرحمانية والشواهد الحقانية العيانية { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } حين تبيتون عند ربكم { وَعَلَيْهَا } [ المؤمنون : 22 ] أي : على النفوس الحيوانية { وَعَلَى ٱلْفُلْكِ } أي : فلك القلوب لروحانية { تُحْمَلُونَ } في بحر الصفات الربانية .