Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 7-11)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ العنكبوت : 7 ] أي : أخلصوا قلوبهم لمحبتنا { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ العنكبوت : 7 ] بجميع وجودهم لبذله في طلب وجودنا { لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } [ العنكبوت : 7 ] لنفنين عنهم سيئاتهم أي : سيئات وجودهم { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } [ العنكبوت : 7 ] أي لنعطيهم وجوداً حقيقياً { أَحْسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ العنكبوت : 7 ] بذل وجودهم لنيل وجودنا . ثم أخبر عن وصية الإنسان لوالديه بالإحسان يقول : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ } [ العنكبوت : 8 ] ، والإشارة في تحقيق الاثنين بقوله : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } [ العنكبوت : 8 ] ، يشير إلى تعظيم الحق تعالى ، وعظيم شأنه وعزة الأنبياء وإعزازهم ، وعرفان قدر المشايخ وإكرامهم ؛ لأن الأمر برعاية الحق والوالدين المعنيين : أحدهما : أنهما كانا سبب وجود الولد . والثاني : أن لهما حق التربية ، فكلا المعنيين في إنعام الحق تعالى على العباد حاصل بأعظم وجه ، وأجل حق منهما لأن حقهما كان مشوباً بحظ نفسهما وحق الله تعالى منزه عن الشوب ، وأنهما وإن كانا سبب وجود الولد لم يكونا مستقلين بالسببية بغير الحق تعالى وإرادته ؛ لأنهما كانا في السببية محتاجين إلى مشيئته وإرادته بأن يجعلهما سبباً لوجود الولد ، فإن الولد لا يحصل بمجرد سببهما بالنكاح بل تحصيل بمُوهبة الله تعالى . كما قال : { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ } [ الشورى : 49 ] فالسبب الحقيقي بإيجاد آدم عليه السلام . وأما الشريعة فنسبتها إلى الله حقيقية بأنه رب كل شيء ومربيه ، ونسبتها إلى الوالدين مجازية ؛ لأن صورة التربية إليهما حقيقة التربية إلى الله تعالى كما ربى نطفة الولد في الرحم حتى جعلها علقةً ثم مضغة ثم عظاماً ثم كساها اللحم ثم أنشأه خلقاً آخر ، والله تبارك وتعالى أعظم قدراً في رعاية حقوقه بالعبودية من رعاية حق الوالدين بالإحسان ، وإن الواجب على العبد أن يخرج من عهده حق العبودية بالإخلاص ولا ثَمَّ يحسن بالوالدين . كما قال تعالى : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] وأما النبي والشيخ لما كان سبب الولادة الثانية بإلقاء نطفة النبوة والولاية في رحم قلب الأمة والمريد وتربيتها إلى أن يولد الولد عن رحم القلب في عالم الملكوت . كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم رواية عن عيسى عليه السلام أنه قال : " لم يلج ملكوت السماوات والأرض من لم يولد مرتين " فكانا أحق برعاية الحقوق من الوالدين ؛ لأنهما كانا سبب ولادته في عالم الأرواح وأعلى عليين القرب والوالد إن كانا سبب ولادته في عالم الأشباح وأسفل سافلين البعد ، ولهذا السر كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا لكم كالوالد لولده " وقد كانت أزواجه أمهات للأمة وقال صلى الله عليه وسلم : " الشيخ في قومه كالنبي في أمته " ولما كان لله تعالى في الإحسان العميم بالعبد والامتنان القديم الذي خصه به قبل وبعد أحق وأولى برعاية حقوقه عن الوالدين . قال تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ } [ العنكبوت : 8 ] وفيه إشارة إلى أن المريد الصادق والطالب العاشق إذا تمسك بذيل إرادة شيخ كامل ودليل واصل بصدق الإرادة وعشق الطلب بعد خروجه عن الدنيا بتركها بالكلي جاهها ومالها ، وقد سعى بقدر الوسع في قدر تعلقات تمنعه عن السير إلى الله متوجهاً إلى الحضرة بعزيمة كعزيمة الرجال ، فإن كان له ولدان وهما بمعزل عما يهيجه من الصدق والمحبة فهما بجهلهما عن حال الولد يمنعان عن صحبة الشيخ وطلب الحق بالإعراض ، ويقبلان به إلى الدنيا ويرغبانه في طلب جاههما ومالها ويحثان على التزويج في غير أوانه ، فالواجب على المريد أن لا يطيعهما في شيء من ذلك فإن ذلك بالكلي طاغوت وقته وعليه أن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، وهما يجاهدانه على أن يشرك بالله لجهلهما بحاله وحال نفسهما وأنه يريدان أن يخرج عن عهدة العبودية الخالصة لربه ، كما قضى ربه أن لا يعبدا إلا إياه ، ولا يعبد من دونه من الدنيا والآخرة وما فيهما ، وما يعلمان مهما يكن أنهن عبدة الهوى وأنهما يدعوانه إلى عبادة غير الله ، فالواجب عليه أن لا يطيعهما في ذلك ، ولكن عليه أن يردهما باللطف ، ولا يزجرهما بالعنف إلى أن يخرج عن عهدة ما قضى به من العبودية بالإخلاص ، ثم الواجب عليه أن يحسن إليهما ويسمع كلامهما ويطيعهما فيما لا يقطعه عن الله على وفق أمره . ثم أوعد الجميع بالمرجع إليه فقال { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم } [ العنكبوت : 8 ] أيها الولدان والوالدان { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ العنكبوت : 8 ] من العبادة الخالصة لله ، ومن عبادة الهوى على لسان جزائكم ليقول لكم أن مرجع عبدة الهوى الهاوية : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } المحبة الحق وطلبوه بأن { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي : أعمالاً تصلح للسير إلى الله والوصول إلى حضرة جلال { لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي ٱلصَّالِحِينَ } [ العنكبوت : 9 ] أي : ندخلهم مقام الأنبياء والأولياء بجذبات العناية تفهم إن شاء الله ، وتؤمن به ثم أخبر عن صورة إيمان بلا معنى ولا إيقاف بقوله تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ } [ العنكبوت : 10 ] يشير إلى حقيقة الإيمان نور إذا دخل قلب المؤمن ينظر الله تعالى وعنايته لا تخرجه أذية الخلق بل يزيد بالصبر على أذاهم والتوكل على الله ، كما قال تعالى : { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] وكقوله : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 146 ] وذلك لأن المحن تظهر جواهر الرجال ، وهي تدل على قيمتهم وأقدامهم فقدر كل أحد وقيمته تظهر في محنته من فوات الدنيا ونقصان نصيبه منها ، أو كانت محنته بموت قريب من الناس أو فقد حبيب من الخلق فحقر قدره وكثير من الناس مثله ، ومن كانت محنته في الله ولله تعزيز قدره وقليل من كان مثله بقدر الوقوف في البلاء يظهر جواهر الرجال يصفوا عن الخبث مرآة قلوبهم ، ويتزكى عن رذائل أخلاق نفوسهم كما تخلص جوهر نعم العبدية عن معدن الإنسانية بمدة أيام البلاء لأيوب عليه السلام مستعين بالصبر على البلاء ، فالمؤمن من يكف الأذى ، والولي من يجلي عن الخلق الأذى ويتشرب ولا يترشح عنه الشكوى عن البلوى ولا إظهار الدعوى كالأرض يلقى عليها كل قبيح فينبت منه كل مليح ، ومن كان إيمانه لسانياً لا جنانياً يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، فإذا أوذي في الله { جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ } وإذا هم { كَعَذَابِ ٱللَّهِ } في الآخرة فتستولي عليه حرفة البشرية إذا لم يكن في حماية خوف الله وخشيته يفترسه خوف الخلق . كما قال صلى الله عليه وسلم : " من خاف الله خوف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله يخوفه من كل شيء " فإنه كان في معدن القلب جوهر القلب مودع يخرجه بسببين البلاء والجزع منه وذلك معنى قوله : { وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ } [ العنكبوت : 11 ] .