Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 145-148)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عن المؤمن المقلد أنه هو الذي يريد العقبى بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللهِ } [ آل عمران : 145 ] ، إشارة في الآية : إنه لا يكون للنفس أن تموت عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية ويتخلص منها بطبعها إلا بإذن الله تعالى وأمره ونظر عنايته وجذبه فضله ورحمته ، كما أن ظلمة الليل لا تنتهي إلا بإشراق طلوع الشمس ، فكذلك ظلمة ليل النفس لا يغيب إلا بإشراق أنوار الربوبية ، كما قال : { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } [ الزمر : 69 ] { كِتَٰباً مُّؤَجَّلاً } أي : كتابة من الله مؤجلة بوقت تعينه ومشيئته ، كما قال تعالى : { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [ المجادلة : 22 ] ؛ أي بقلم العناية من نور الهداية . ثم اثبت للعبد كسباً في طلب الهداية واستجلاب العناية بقوله تعالى : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ آل عمران : 145 ] ، والإشارة فيه : إن ثواب الدنيا هو أنواع الكرامات التي خص الله تعالى بعض خواصه في الدنيا من العلوم اللدنية الربانية ، والكشوف والشهود الروحانية النورانية ، وغيرها مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، أولئك الذين نفذ الله لهم الوعد ، كما قال الصوفي ابن وقته في معناه : @ أنشدوا خليلي هل أبصرتما أو سمعتما بأكرم من مولى تمشي إلى عبد أتى زائراً من غير وعد وقال لي أصونك عن تعذيب قلبك بالوعد @@ يعني : من كانت همته في الطلب التبتل إلى الله تعالى بالكلية والتوحيد إليه بخلوص النية وصفاء الطوية ، ويقطع بقدم الصدق مفاوز البشرية ، تستقبله ألطاف الربوبية وتنزله مقام العندية قبل خروجه بالصورة عن الدار الدنيوية ؛ { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ } [ آل عمران : 145 ] ؛ يعني : من كان مشربه من الأعمال لا من الأحوال ، ولا يزعجه الشوق المبرح عن مألوفات الطبع ، فيسير بقدم الشرع ومقصده نعيم الجنان لا بمقصوده يوجه به ، يدل على هذا التصريح قوله تعالى : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] ، والحسنة ما أشرنا إليها في معنى الثواب ، وحمل الثواب على هذا المعنى أولى من حمله على معنى إرادة الدنيا ؛ لأن الثواب يستعمل بضد العقاب وإرادته هي عين العقاب ؛ ولأنه ما ذكر الله تعالى عقيب قوله : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ آل عمران : 145 ] ، قوله : { وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] ، كما قال تعالى في قوله : { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] وله نظائر كثيرة ، وقال في عقبه : { وَسَنَجْزِي ٱلشَّٰكِرِينَ } [ آل عمران : 145 ] ، وهذا وعد لا وعيد ، والوعد يذكر عند فعل مقبول محمود ، والوعيد يذكر عند فعل مردود ومذموم ؛ والمعنى : سوف نجزي كلا الفريقين على قدر شكرهما ، وهو رؤية النعمة ، وجزاء الشكر ازدياد النعمة ، فمن عمل شوقاً على الجنة فقد رأى نعمة الجنة فثوابه في الآخرة ، ومن عمل شوقاً إلى الحق تعالى ، فقد رأى نعمة وجود المنعم فثوابه في الدنيا ؛ لأنه حاضر لا غيبة له ، قريب لا بعيد ، { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [ الحديد : 4 ] ، وقال : " ألا من طلبني وجدني ، ومن تقرَّب إليّ شبراً ، تقرَّبت إليه ذراعاً " . ثم أخبر عن إقامة الشكر في إدامة الصبر بقوله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ } [ آل عمران : 146 ] ، إشارة في الآيات : إنه وكم من نبي قاتل العدو ، وأعدى العدو هي النفس التي بين جنبي الإنسان ، { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } [ آل عمران : 146 ] ، قاتلوا العدو والربّيون ، هي المتخلقون بأخلاق الرب { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ } [ آل عمران : 146 ] ، من تعب مجاهدات النفس وتضرر رياضتها ، ومما ابتلاهم الله به { مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ } [ البقرة : 155 ] ، { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 146 ] ؛ أي : في سلوك طريق الوصول إلى الله تعالى : { وَمَا ضَعُفُواْ } [ آل عمران : 146 ] ؛ يعني : في طلب الحق ، { وَمَا ٱسْتَكَانُواْ } [ آل عمران : 146 ] ؛ يعني : وما رجعوا عن الطريق بالعجز ، وما أذلوا نفوسهم بالتفات إلى غير الحق والصد عن سبيل الله ، بل شبوا على قدم الطلب واستقاموا كما أمروا وصبروا على ما نهوا عنه ، { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 146 ] ، عند أحكام مجازي القدر المستسلمين لقضائه والمتحملين أعباء بلائه . { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } [ آل عمران : 147 ] ، عند إصابة الآلام والأسقام ونزول الأقضية والأحكام ، { إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } [ آل عمران : 147 ] ؛ ، أي استر ذنوب وجودنا بإسبال مغفرتك { وَإِسْرَافَنَا فِيۤ أَمْرِنَا } [ آل عمران : 147 ] ؛ أي : أمح عنا سرف أمورنا ، { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } [ آل عمران : 147 ] على جادة الطلب { وٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 147 ] ، متمردين صفات النفس الكافرة { فَآتَاهُمُ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 148 ] بصنيعهم وقولهم { ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا } [ آل عمران : 148 ] ؛ أي : فتوحات الغيب والموهب في الدنيا ، { وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلآخِرَةِ } [ آل عمران : 148 ] ؛ أي : أحسن المراتب وأعلى المقامات في الآخرة ، { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 148 ] ، الذين يعبدون الله على بصيرة كأنهم يرونه ، وفيها إشارة أخرى وهي : إن الله تعالى لما أراد بخواص عباده كرامة التخلق بأخلاقه ، ابتلاهم بقتال العدو وثبتهم عند المقامات ، فاستخرج من معادن ذواتهم جواهر الصفات المكنونة فيها المكرم بها بنو آدم الصبر والإحسان ، فهما صفات من صفات الله تعالى ، ويتخلقوا بها هذا من ثواب الذي أتاهم الله تعالى ، والله يحب صفاته ويحب من تخلق بصفاته ، ولهذا قال تعالى : { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 134 ] .