Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 169-173)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عن حال من رزق الاستشهاد ومن قتل في الجهاد بقوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً } [ آل عمران : 169 ] ، إشارة في الآية : إن أرباب القلوب الذين قتلوا أنفسهم بسيف الصدق في سبيل السير إلى الله تعالى ، فلا تحسبن أهل الغفلة والبطالة إنهم أموات وما ماتت نفوسهم ، { بَلْ أَحْيَاءٌ } [ آل عمران : 169 ] قلوبهم ، { عِندَ رَبِّهِمْ } [ آل عمران : 169 ] بنور جماله ، كما قال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ } [ الأنعام : 122 ] ، { يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] ، من كؤوس تجلي الصفات ساقيهم شراب الشهود ، { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ آل عمران : 170 ] ؛ أي : بما جذبتهم العناية الإلهية إلى عالم الوصول ، { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ } [ آل عمران : 170 ] ، من إخوان الصدق ومريديهم ، { لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ } [ آل عمران : 170 ] ، وهو بعد في سلوك الطريق إلى الله تعالى ، { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [ آل عمران : 170 ] من الانقطاع في الطريق ؛ لأنهم شاهدوا وعاينوا إن متابعيهم مجذوبون بجذبات الحق ، وإنه لا انقطاع بها فيصلون إليهم ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ آل عمران : 170 ] ، على فوات الحياة النفسانية ؛ لفوزهم بالحياة الربانية . ثم أخبر عن الاستبشار بفضل الملك الغفار بقوله تعالى : { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 171 ] ، والإشارة في الآيات : إن الشهداء الذين استشهدوا في طلب الحق بسيف الصدق ، يستبشرون عند فناء البشرية بنعمة من الله وهي البقاء ببقاء الإلوهية ؛ لأنه قال تعالى : { بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 171 ] لا من الجنة وغيرها ، { وَفَضْلٍ } [ آل عمران : 171 ] ؛ أي : إعطائهم هذه النعمة إنما كان بفضل منه لا بمجازاة أعمالهم على الحقيقة ؛ لأن المجازاة إنما تكون بالأمثال والأضعاف ، كقوله تعالى : { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] ، و { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، فاعلم جدًّا { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 171 ] ؛ يعني : إذا أعطاهم نعمة البقاء بفضل منه لا مجازاة أعمالهم فلا يضيع أجر أعمالهم ، فيجازيهم بالجنة ونعيمها { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] ، كما قال تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] ؛ الحسنى : عفي الجنة ، والزيادة هي : النعمة التي من فضل الله وفضل الله منه . ثم وصفهم وقال تعالى : { ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ } [ آل عمران : 172 ] عند الميثاق الأول ، إذ قال : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [ الأعراف : 172 ] فأجابوه : { قَالُواْ بَلَىٰ } [ الأعراف : 172 ] ، أقررنا بالربوبية والوحدانية ، { وَٱلرَّسُولِ } [ آل عمران : 172 ] ، فأجابوه بقبول دعوة أتباعه في أخذ ما أتاهم وانتهاء ما نهاهم عنه ، { مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ } [ آل عمران : 172 ] ؛ أي : جراحة المفارقة من حظائر القدس وجوار رب العالمين ، فإن الخلائق استجابوا لله عامتهم إذ { قَالُواْ بَلَىٰ } [ الأعراف : 172 ] ، قيل : أصابهم قرح المفارقة من تلك الحضرة ، وما استجاب للرسول من بعد ما أصابهم قرح المفارقة ، إلا خواصهم وهم الذين اتقوا الشرك الجلي والخفي منهم ، وأحسنوا في العبودية ، كما قال تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران : 172 ] ، وهو نعمة البقاء بالله التي هي الفضل من الله ، يدل عليه قوله تعالى : { وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [ النساء : 113 ] . ثم وصفهم بصفة أخرى هي تتمة كلامه ، وقال تعالى : { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } [ آل عمران : 173 ] ؛ يعني : بالنفس الأمارة بالسوء الناسية تلك المخاطبة عند الميثاق ، { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ } [ آل عمران : 173 ] ، واهربوا منهم ، وفي الحقيقة ؛ أي : القلب ودواعي الحق [ لو صدقوكم ] أيتها النفس اللوامة ؛ لغنوكم عنكم بسطوة ذكر الله وتجلي صفاته ، فاخشوهم بترك الذكر والمراقبة { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } [ آل عمران : 173 ] ، أما لأهل الظاهر بالتفكر في عواقب الأمور ، فعلموا أن الدنيا فانية وأن { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] ، وتحققوا أن المقتولين في سبيل الله { أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] ، فزادهم نور الإيمان ، وشاهدوا بذلك النور الزائد مقامات أهل الزيادة عند ربهم فزهدوا في الدنيا وما فيها ؛ طلباً مقام العندية في مقعد الصدق ، { وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] ، وأما لأهل الحقيقة فبشواهد الغيب كوشفوا أن الحجاب الأصلي والمانع الحقيقي لهم عن المقصد والمقصود وهي النفس وصفاتها فاشتاقوا إلى فنائها وارتحلوا عن فنائها ، ونادى رب العزة : " أنا يا أهل العزة ، [ الراجين ذلك ] المقام ، دع نفسك وتعال " ، فزادهم صار الإيمان عياناً ، فودعوا الملوثات وخلفوا المكونات ، { وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] ، كما قال الخليل عليه السلام مع جبريل عليه السلام ، والذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " كان آخر ما تكلم به إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار : حسبي الله ونعم الوكيل " ؛ يعني : آخر مقام الخلة أن يكبر عن نفسه وما سواه ، كما قال بعضهم : حب الواحد انفراد الواحد .