Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 40-46)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عن ظهور الآيات أنها موجبة لمزيد الطاعات بقوله تعالى : { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } [ آل عمران : 40 ] ، الإشارة في الآيتين : إن استبعاد زكريا عليه السلام الولد وتعجبه في قوله : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } [ آل عمران : 40 ] ، ما كان من قبل قدرة الله تعالى ، ولكن من قبل استحقاقه لنيل هذه الكرامة ؛ يعني : بأي استحقاق يكون لي غلام { وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [ آل عمران : 40 ] ؛ أي : هكذا يعطي الله من يشاء لمن يشاء فضلاً منه ورحمة ، لا استحقاقاً في شيء من الأشياء ، كقوله تعالى : { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [ الحديد : 21 ] . { قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً } [ آل عمران : 41 ] ، استدل بها على أن لك معي هذا الفضل تخصني بنيل هذه الكرامة من العالمين ، { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } [ آل عمران : 41 ] ، وإنما جعل آيته في احتباسه عن الكلام لغلبات الصفات الروحانية عليه ، واستيلاء سلطان الحقيقة على قلبه ، فإن النفس الناطقة تكون مغلوبة في تلك الحالة بشواهد الحق في الغيب ، فلا تفرغ إلى جلاء عادتها في الشهادة في الكلام إلا رمزاً ، وبهذا يتقوى الروح الطبعي والروح الحيواني وتستمد منه القوى البشرية ، فيحيي الله به الشهوة الميتة التي أحياها الله تعالى فيحيا ، والاستبقاء بهذه الحالة واستمرارها أمر في هذه الأيام الثلاثة بأن يستمد من كثرة ذكر ربه ، وإقامة المراقبة بالليل والنهار ، وإقامة الصلاة { وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ } [ آل عمران : 41 ] . ثم أخبر عن الاصطفاء من النساء بقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ } [ آل عمران : 42 ] ، الإشارة في الآيات : إن المصطفى من الخليقة من اصطفاه تعالى فضلاً منه ورحمة لا استحقاقاً واستعداداً ، كما ظن إبليس أنه مستحق للخيرية ومستعد بقوله : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] ، واعلم أن الاصطفاء على أنواع مختلفة منها : اصطفاء على غير الجنس : كاصطفاء آدم عليه السلام على غير جنسه من المخلوقات بقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ } [ آل عمران : 33 ] ، ولم يكن له جنس حين خلقه ، واصطفاه وأسجد له ملائكته . ومنها : اصطفاء على غير الجنس وعلى الجنس : كاصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم على جميع المكونات بقوله : " لولاك ما خلقت الأفلاك " . وقال صلى الله عليه وسلم : " أنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحت آدم ومن دونه ولا فخر ، وأنا أول شافع يشفع يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من يقرع باب الجنة فيفتح لي ، فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر " . ومنها اصطفاء الجنس : كاصطفاء مريم على نساء زمانها بقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَـٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [ آل عمران : 42 ] ، { ٱصْطَفَـٰكِ } [ آل عمران : 42 ] لاصطفائك بك إياه { وَطَهَّرَكِ } [ آل عمران : 42 ] عن الالتفات لغيره ، واصطفاك على نساء العالمين ؛ لنيل درجة الكمال ، فإنه ليس من شأن النساء ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وفضل عائشة على النساء : كفضل الثريد على سائر الطعام " . { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي } [ آل عمران : 43 ] ، واقتربي { وَٱرْكَعِي } [ آل عمران : 43 ] ، وانكسري من أنانيتك لتجدي أنانيتي ، فإني أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي { مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 43 ] ، البالغين من الرجال درجة الكمال { ذٰلِكَ } [ آل عمران : 44 ] ، أحوال { مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ } [ آل عمران : 44 ] ، من الأحوال الغيبية على نواظر أهل الشهادة { نُوحِيهِ إِلَيكَ } [ آل عمران : 44 ] ، يا محمد بوحي البيان وكشف العيان { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [ آل عمران : 44 ] ، وإن لم تكن عندهم إذ يسعون بإلقاء الأقدم ؛ ليستعدون بكمال مريم ، { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ] ، على إدراك هذه السعادة . ثم أخبر عن ميامن الاصطفاء ببشارتها بنبي من الأنبياء بقوله تعالى : { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } [ آل عمران : 45 ] ، والإشارة في الآيتين : إن الله تعالى جعل المخلوقات كلمة مركبة من حروف تفيد معرفة ذاته وصفاته ، فإن كل صفة من صفاتها مظهر آية من آياتها ، وصفة من صفاته أو صفتين فصاعداً ، كقوله تعالى : " كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق ؛ لأعرف " ، وكل صنف من أصناف العالم ؛ فهو حرف من حروف كلمة المعرفة ، ولكنه خلق نسخة العالم بما فيه وركب من أصناف العالم ؛ فهو أيضاً كلمتة المعرفة : كالعالم بما فيه ، وليس للعالم ولا لصنف من أصنافه هذا الاستعداد ، وكما أثبت الله تعالى للإنسان بقوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] ، وهذا مقام مخصوص بالإنسان الكامل المزكي بتزكية الشريعة ، المربي بتربية أرباب الطريقة ، وإنما خص عليه السلام بهذا الاسم ؛ أعني : الكلمة من بين سائر الأنبياء والأولياء لمعنيين : أحدهما : أنه خلق مستعداً لهذا الكمال في بدء أمره وحال طفوليته من غير احتياج إلى التربية ، كقوله تعالى في المهد { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ } [ مريم : 30 ] ، فقد فهم من كلمة نفسه معرفة ربه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " من عرف نفسه عرف ربه " . والثاني : إنه لما كان الله تعالى متولي إلقاء روح عيسى عليه السلام إلى مريم ، كما قال تعالى : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] ، ومتولي أمر تخليق طينة جده بإبداع كن من غير نطفة أب ، كما قال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] ، سماه كلمة وشرفه بإضافة إلى نفسه ، وقال تعالى : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } [ النساء : 171 ] ، وبقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } [ آل عمران : 45 ] ، { ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } [ آل عمران : 45 ] ، فكان من اختصاصه بالكلمة أنه غلب الكلام ، كما أخبر عنه { وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 46 ] ، { وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } [ آل عمران : 45 ] ، حتى روى مجاهد قال : قالت مريم بنت عمران - صلوات الله عليها - : كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدثته وحدثني ، فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع ، وسمي المسيح ؛ لأنه مسح الله تعالى ظهر آدم عليه السلام ، فاستخرج منه ذرات ذرياته وأشهدهم على أنفسهم { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [ الأعراف : 172 ] ، جاء في الخبر إذن للذرات بالرجوع إلى ظهر آدم عليه السلام ، وحفظ ذرة عيسى عليه السلام وروحه عنده حتى ألقاها إلى مريم ، فكان قد بقي عليه اسم المسيح إلى الممسوح ، وقوله تعالى : { وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 46 ] ؛ أي : حالة النبوة ؛ لأن بلاغة الأنبياء - عليهم السلام - كان عند كهوليتهم ، كقوله تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [ الأحقاف : 15 ] ، { وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 46 ] ؛ أي : صلاحية قبول الفيض بلا واسطة ، كما هو حال جميع الأنبياء عليهم السلام .