Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 24-26)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وبقوله : { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [ ص : 24 ] ، يشير إلى أن النفوس جبلت على الظلم والبغي وسائر الصفات الذميمة ولو كانت نفوس الأنبياء عليهم السلام ، ثم استثني منهم أهل الإيمان والعمل الصالح بقوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ ص : 24 ] ؛ يعني : الذين آمنوا وعملوا أعمالاً صالحة لتزكية النفس عن صفاتها الذميمة ، ثم قال تعالى : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ ص : 24 ] ؛ يعني : وقليل من أهل الإيمان أن يكون أعمالهم صالحة لتزكية النفس ، وهم الأنبياء والأولياء ، وفيه إشارة أخرى وهي : إن من شأن النبي والولي أن يحكم كل واحد منهم بين الخصوم بالحق ، كما ورد الشرع به بتوفيق الله ، وإن الواجب عليهم أن يحكموا على أنفسهم بالحق كما يحكمون على غيرهم ، كما قال تعالى : { كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ } [ النساء : 135 ] ، فلما انتبه داود عليه السلام أنه ما حكم على نفسه بالحق كما حكم على غيره كما أخبر الله تعالى بقوله : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ ص : 24 ] ؛ أي : أناب واستغفر ورجع إلى ربه متضرعاً خاشعاً ، باكياً بقية العمر ، معتذراً عما جرى عليه ، فتقبل الله منه ورحم عليه وعفا عنه . وقال : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ } [ ص : 25 ] ؛ أي : لقربة بكل تفرع وخضوع وخشوع ، وبكاء وأنين وحنين ، وتأوّه صدر منه { وَ } [ ص : 25 ] له بهذه المراجعات ، { حُسْنَ مَـآبٍ } [ ص : 25 ] عندنا ، وفيه إشارة أخرى وهي أن نعلم أن المعصوم عن عصمة الله عز وجل ، ومن يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلله { فَلاَ هَادِيَ لَهُ } [ الأعراف : 186 ] . ثم أخبر عن الهدى أنه مخالفة الهوى بقوله : { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ } [ ص : 26 ] ، يشير إلى معان مختلفة : منها : إن الخلافة الحقيقة ليست بمكتسبة للإنسان ؛ إنما هي عطاء وفضل من الله { فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [ الحديد : 21 ] ، كما قال تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً } [ ص : 26 ] ؛ أي : أعطيناك الخلافة . ومنها : إن استعداد الخلافة مخصوص بالإنسان ، كما قال : { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 165 ] . ومنها : إن الإنسان وإن خلق مستعداً للخلافة ، ولكن بالقوة فلا يبلغ درجتها بالكمال إلا الشذاذ منهم . ومنها : إن [ خلافته ] تتعلق بعالم المعنى ، كما أن الخلقية تتعلق بعالم الصورة ، ولهذا إنما أخبر الله تعالى عن صورة آدم عليه السلام قال : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [ ص : 71 ] ، ولما أخبر عن معناه قال : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] ، وقال : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] ، قال : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } [ فاطر : 1 ] . ومنها : إن الروح الإنساني من الفيض الأول ، وهو أول شيء تعلق بأمر " كن " ، ولهذا نسبه إلى أمره ، فقال تعالى : { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] ، ولما كان هو الفيض الأول إفاضة إلى ذاته تعالى ، فقال : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ ص : 72 ] ، فلما كان الروح هو الفيض الأول كان خليفة الله بذاته وصفاته ، إما بذاته ؛ فلأنه كان له وجود من وجوده بلا واسطة ، فوجوده كان وجود خليفة وجود الله تعالى ، وإما بصفاته ؛ فلأنه كان له صفات أيضاً من وجود صفات الله بلا واسطة ، فكل وجود وصفات يكون بعد وجود الخليفة يكون خليفة الله بالذات والصفات ، … هلم جرّاً إلى أن يكون القالب الإنساني وهو أسفل سافلين الموجودات ، وآخر شيء لقبول الفيض الإلهي ، وأقل حظ من الخلافة ، فلما أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل الإنسان خليفة في الأرض خلق لخليفة روحه منزلاً صالحاً لنزول الخليفة فيه وهو قالبه ، وأعد له عرشاً فيه ليكون محل استوائه عليه وهو القلب ، ونصب له خادماً وهو النفس ، فلو بقي الإنسان على فطرة الله التي فطر الناس عليها يكون روحه مستفيضاً من الله تعالى ، فائضاً بخلافة الحق تعالى على عرش القلب ، فائض بخلافة الروح على خادم النفس ، فائض بخلافة القلب على القالب ، والقالب فائض بخلافة النفس على الدنيا وهي أرض الله ، فتكون الروح بهذه الأسباب والآلات خليفة الله في أرضه بحكمه وأمره بتواقيع الشرائع . ومنها : إن من خصوصية الخلافة الحكم بين الناس بالحق ، والإعراض عن الهوى ، وترك متابعته ، كما أن من خصوصية أكل الحلال العمل الصالح ، قال تعالى : { كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً } [ المؤمنون : 51 ] . ومنها : إن الله تعالى جعل داود الروح خليفة في أرض الإنسانية ، وجعل القلب والسر ، والنفس والقالب ، والحواس والقوى ، والأخلاق والجوارح والأعضاء كلها رعية له ، ثم على قضية " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " ، أمر بأن يحكم بين رعيته بالحق ؛ أي : بأمر الحق تعالى ، وقال : { وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ } [ ص : 26 ] ؛ أي : لا بأمر الهوى ، ثم اعلم أن الله تعالى خلق الهوى في الباطل على صفة الضلالة مخالفاً للحق تعالى ، فإن من صفة الهداية والحكمة في خليفته ليكون هادياً إلى الحضرة بضدية طبعه ومخالفة أمره ، كما أن الحق تعالى كان هادياً إلى حضرته بنور ذاته وموافقة أمره ؛ ليسير السائر إلى الله على قدمي موافقة أمر الله ومخالفة هواه ؛ ولهذا قالت المشايخ : لولا الهوى ما سلك أحد طريقاً إلى الله . ومنها : إن أعظم جنايات العبد وأقبح خطاياه متابعة الهوى ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " ما عبد إله في الأرض أبغض على الله من الهوى " . ومنها : إن للهوى كمالية في الإضلال لا توجد في غيره ؛ وذلك لأنه يحتمل أن يتصرف في الأنبياء بإضلالهم عن سبيل الله ، كما قال لداود عليه السلام في هؤلاء : { وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ } [ ص : 26 ] ، يشير إلى أن الضلال الكبير ؛ هو الانقطاع عن طلب الحق ، ومن ضل عن طريق الطلب مأخوذ بعذاب شديد القطيعة والحرمان من القرب وجوار الحق ، وذلك { بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ } [ ص : 26 ] ؛ وهو يوم يجازي فيه كل محق بقدر هدايته ، وكل مبطل بحسب ضلالته .