Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 30-40)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ } [ ص : 30 ] ؛ أي : لداود الروح { سُلَيْمَانَ } [ ص : 30 ] القلب ، { نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 30 ] ، رجع إلى الحضرة بإخلاص العبودية بلا علة الدنيوية والأخروية . { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } [ ص : 31 ] ؛ وهي مراكب صفات البشرية ، وبقوله : { فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ ص : 32 ] ، يشير إلى أن حب غير الله شاغل عن الله وموجب للحجاب . وبقوله : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ } [ ص : 33 ] ، يشير إلى أن كل محبوب سوى الله إذا حجبك عن الله لحظة يلزمك أن تعالجه بسيف نفي لا إله إلا الله ، وبقوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ ص : 34 ] ، يشير إلى إلقاء وسوسة شيء من الشهوات الجسدانية على كرسي صدر سليمان القلب ، فافتتن به إلى أن تاب منه ، ورجع إلى الحضرة . ثم أخبر عن الإجابة بعد الإنابة بقوله تعالى : { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } [ ص : 35 ] ، يشير إلي معانٍ مختلفة : منها : إنه أراد طلب المُلك الذي هو رفعة الدرجة ، بني الأمر في ذلك على التواضع الموجب للرفقة ؛ وهو قوله : { رَبِّ ٱغْفِرْ لِي } [ ص : 35 ] . ومنها : إنه قدم طلب المغفرة ؛ لأنه لو كان طلب المُلك ذلة عن حق الأنبياء - عليهم السلام - تكون مسبوقة بالمغفرة لا يطالب بها . ومنها : إن المُلك مهما يكن في يد مغفور له منظور بنظر العناية ما يصدر منه تصرف في الملك إلا مقروناً بالعدل والنصفة ، وهو محفوظ من آفات الملك وتبعاته . ومنها : قوله : { وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } [ ص : 35 ] ؛ أي : يكون ذلك موهوباً له ، بحيث لا ينزعه منه ويؤتيه من يشاء ، كما هي السنة الإلهية جارية فيه . ومنها : قوله : { لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ } [ ص : 35 ] ؛ أي : لا يطلبه أحد غيري ؛ لئلا يقع في فتنة الملك على مقتضى قوله تعالى : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] ، فإن المُلك جالب للفتنة ، كما كان جالباً إلى سليمان عليه السلام بقوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } [ ص : 34 ] ؛ ولئلا يكون هو سبب افتتانهم . ومنها : قوله : { مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ } [ ص : 35 ] ؛ أي مُلكاً لا يطلع على حقيقته وكماليته أحد حتى يطلبه منك ؛ يعني : يكون في جملة " ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " ليطلبه . ومنها : قوله : { لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ } [ ص : 35 ] ؛ أي : لا يكون هذا الملك ملتمس أحد منك غير للتمتع والانتفاع به ، وهو بمعزل عن قصدي ونيِّتي عن طلب هذا ، فإن لي في هذا المُلك نية لنفسي ، ونية لقلبي ، ونية لروحي ، ونية للرعايا ، ونية للملك . وأما نيته لنفسه : فتزكيتها عن صفاتها الذميمة وأخلاقها اللئيمة ، وذلك في منعها عن استيفاء شهواتها الحيوانية ، وترك مستلذاتها النفسانية بالاختيار دون الاضطرار ، وإنما يتيسر ذلك بعد القدرة الكاملة عليه بالمالكية والملكية بلا مانع ولا منازع ، وكمالية في المملكة بحيث يعوذ فيها مما تحرك داعية من دواعي البشرية المركوزة في جبل الإنسانية ؛ ليكون كل واحد من المشتهيات والمستلذَّات النفسانية محرك لراعية تناسبها عند تملكها ، والقدرة عليها عند توقان النفس إليها ، وغلبات هواها ، فيحرم على النفس مراضعها ، ويحرمها عن مشاربها ، ونهاها عن هداها خالصاً لله وطالباً لمرضاته ، فتموت النفس عن صفاتها كما يموت البدن عن إعواز ما هو غذاء يعيش به ، فلما ماتت النفس عن صفاتها الذميمة يحييها الله تعالى بالصفات الحميدة ، كما قال تعالى : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 97 ] ، وقال : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] ، فلا يبقى لها نظر إلى الدنيا وسائر نعيمها ، كما كان حال سليمان لم يكن له نظر إلى الدنيا ونعيمها ، إنما كان مع تلك الوسعة في المملكة يأكل كسيرة من كسب يده مع جليس مسكين ، ويقول : جالس مسكيناً . وأما نيته لقلبه : فتصفيته عن محبة الدنيا وزينتها وشهواتها ، وتوجهه إلى الآخرة بالإعراض عنها عن القدرة عليها والتمكن فيها ، ثم صرفها في سبيل الله وقلع أصلها من أرض القلب ؛ ليبقى القلب صافياً نقياً من الدنس قابلاً للفيض الإلهي ، فإنه خلق مرآة لجميع الصفات الإلهية . وأما نيته لروحه : فلتحليته بالأخلاق الحميدة الربَّانية ، ولا سبيل إليها إلا بعلو الهمة وخلوص النية ، فإن المرء يطير بهمته كالطائر { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] ، وتزينه الهمة بحسب نيل المقاصد الدنيوية الدنية ، وصرفها عن نيل المراتب الدنية الأخروية الباقية ، وإن لترك المقاصد الدنيوية وإن كان أثراً لتربية الهمة ، ولكن لا يبلغ حد أثر صرفه ما يملك من المقاصد الدنيوية لنيل الدرجات العلية ، فلما كان من أخلاق الله تعالى أنه يحب معالي الأمور ويبغض سفاسفها ، التمس سليمان عليه السلام أقصى مراتب الدنيا ونهاية مقاصدها ؛ لئلا يلتفت إليها ويستعملها في تربية الهمة ؛ لتتجلى روحه بحب معالي الأمور ويبغض سفاسفها متخلقاً بأخلاق الله تعالى . وأما نيته للرعايا : بأن يحسن إليهم ويؤلف قلوبهم ببذل المال والجاه ، فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها ، فإنهم إذا أحبوا نبي الله لزمهم حب الله ، فيكون حب الله وحب نبيه في قلوبهم محض الإيمان ، ومن لم يكن منهم أن يؤمن بالإحسان فيدخلهم في الإيمان بالقهر والغلبة بأن يأتيهم { بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } [ التوبة : 40 ] ، كما أدخل بلقيس وقومها في الإيمان . وأما نيته للملك : بأن يجعل الممالك الدنيوية الفانية أخروية باقية ، بأن يتوسل بها إلى الحضرة بصرفها في إظهار الدين ، وإقامة الحق ، وإعلاء كلمة الإسلام ، فإن قيل قوله : { لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } [ ص : 35 ] ، هل يتناوله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ قلنا : إما بالصورة : فيتناول ، ولكن لعلو همته وكمال قدره لا بعدم استحقاقه ؛ لأنه عُرض عليه صلى الله عليه وسلم مُلك أعظم من ملكه فلم يقبله ، وقال : " الفقر فخري " . وإما بالمعنى : فلا يتناول النبي صلى الله عليه وسلم : لأنه قال : " فضلت على الأنبياء بست " ؛ يعني : على جميع الأنبياء ، ولا خفاء بأن سليمان عليه السلام ما بلغ درجة واحدة من أولى العزم من الرسل اختصاصه بصورة الملك منهم ، وهم معه مفضلون بست فضائل من النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن الملك الحقيقي الذي كان كان ملك سليمان صورته بلا ريب يكون داخلاً في الفضائل التي اختصه الله بها ، وأخبر عنها بقوله : { وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [ النساء : 113 ] ؛ بل أعطاه الله تعالى ما كان مطلوب سليمان عليه السلام من صورة الملك ومعناه ، أو فسر ما أعطى سليمان وفتنه به من غير رحمة مباشرة صورة الملك ، والافتتان فلم يقبله به عزة ودلالاً . وبقوله : { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } [ ص : 36 ] ، يشير إلى أن سليمان عليه السلام لما فعل بالصافنات الجياد ، وما فعل في سبيل الله عوضه الله تعالى مركباً مثل : الريح كان { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [ سبأ : 12 ] . وبقوله : { وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ * هَـٰذَا عَطَآؤُنَا } [ ص : 37 - 39 ] ، يشير إلى أن الإنسان إذا كمل في إنسانيته يصير قابلاً للفيض الإلهي بلا واسطة ، فيعطيه الله من آثار الفيض تسخير ما في السماوات من الملائكة ، كما سخر لآدم بقوله : { ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } [ البقرة : 34 ] وما في الأرض ، كما سخر لسليمان الجن والإنس والشياطين والوحوش والطيور ؛ وذلك لأن كل ما في السماوات وفي الأرض أجزاء وجود الإنسان الكامل ، فإذا أنعم الله عليه بفيض سخر له أجزاء وجوده في المعنى ، أما في الصورة فيظهر على بعض الأنبياء تسخير بعضها إعجازاً له ، كما أظهر على نبينا صلى الله عليه وسلم تسخير القمر عند انشقاقه بإشارة إصبعه ؛ ولهذا قال : { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا } [ ص : 39 ] ، وبقوله : { فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] ، يشير إلى أن الأنبياء بتأييد الفيض الإلهي ولاية إفاضته الفيض على من هو أهله عند استفاضته ، ولهم إمساك الفيض عند عدم الاستفاضة من غير أهله ، ولا حرج عليهم في الحالتين . { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ } [ ص : 40 ] في الإفاضة والإمساك ، { وَحُسْنَ مَآبٍ } [ ص : 40 ] ؛ لأنه كان متقرباً إلينا بالعطاء والنعم .