Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 103-105)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن معنى آخر من معنى الحذر ؛ وهو المداومة على الذكر بقوله تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَٰوةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ } [ النساء : 103 ] ، إلى قوله : { عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء : 111 ] ، والإشارة فيها : إن الله تعالى يأمر من لم تكن صلاته دائمة ، { فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَٰوةَ } [ النساء : 103 ] المكتوبة المفروضة المعدودة فلا تحسبوا أنها تكفيكم في إقامة العبودية ، أو تصلون بمجردها إلى حضرة الربوبية ، ولكن { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } [ النساء : 103 ] في جميع حالاتكم ولا تخلوا حالاتكم من [ الوصف ] ، إما تكونوا قياماً أو قعوداً أو على جنوبكم { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ } [ النساء : 103 ] حتى يطمئن قلبكم بذكر الله ، { فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } [ النساء : 103 ] ؛ أي : فأديموها ؛ يعني : فإذا اطمأن القلب بذكر الله فقد أقام القلب الصلاة ، { إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَٰباً } [ النساء : 103 ] أي : مكتوباً أزلياً ، { مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] أي : مؤقتاً إلى الأبد . فاعلم أن لله تعالى عباداً قد منحهم ديمومة الصلاة فهم في صلاتهم دائمون من الأزل إلى الأبد ، وليس هذا من مدرك عقول الخيال فلا يعقلها إلا العالمون ، وقد أشار إلى هذا المعنى بقوله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً } [ الفتح : 1 ] منا بنا عليك ، { مُّبِيناً } [ الفتح : 1 ] ؛ أي : بينا لك { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ } [ الفتح : 2 ] بما فتح منه عليك ، { مَا تَقَدَّمَ } [ الفتح : 2 ] في الأزل ، { مِن ذَنبِكَ } [ الفتح : 2 ] ؛ بأن لم تكن مصلياً ، { وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] إلى الأبد من ذنبك بأن لا يكون مصلياً ، { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } [ الفتح : 2 ] ؛ يعني : نعمة المغفرة ، وإتمامها أن يجعل بها سيئاتك وهي عدم صلاتك في الأزل والأبد مبدلة بالحسنات وهي الصلاة المقبولة من الأزل إلى الأبد { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [ الفتح : 2 ] من الأزل إلى الأبد ، ومن الأبد إلى الأزل ، { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ } [ الفتح : 3 ] بالظفر على هذا الأكبر الأعظم ، { نَصْراً عَزِيز } [ الفتح : 3 ] ، لا يعز به غيرك ولا يتنسم روائحه إلا بمسام متابعتك ، فهمها من فهمها ، وجهلها من جهلها ، ثم قال تعالى : { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ } [ النساء : 104 ] أي : في طلب النفس وصفاتها والجهاد معها ، { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ } [ النساء : 104 ] في الجهاد معها ، ويتعبون بالرياضيات والمجاهدات ، وملازمة الطاعات والعبادات ، ومداومة الذكر ومراقبة القلب في طلب الحق ، والوصول إلى المقامات العلية ، { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ } [ النساء : 104 ] ؛ يعني : النفس والبدن في طلب الشهوات الدنيوية ، واللذات الحيوانية والمرادات الجسمانية ، ويأملون ويتعبون في طلبها ، { كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ } [ النساء : 104 ] ، العواطف والعوارف الأبدية ، { مَا لاَ يَرْجُونَ } [ النساء : 104 ] ، النفوس الردية من هممها الدنية التي لا تجاوز قصورها من المقاصد الدنيوية ، { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً } [ النساء : 104 ] ، في الأزل باستعداد كل طائفة من أصناف الخلق ، { حَكِيماً } [ النساء : 104 ] ، فيما حكم لكل واحد منهم من المقاصد والمشارب ، { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } [ البقرة : 60 ] ، وجعل { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 53 ] . ثم أخبر عن إنزال الكتاب بالحق إنه على من أنزل من الخلق بقوله تعالى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ } [ النساء : 105 ] ، والإشارة فيها : إن إنزال الكتب من الله تعالى على الأنبياء - عليهم السلام - كان بواسطة الألواح والصحف وجبريل عليه السلام ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج بلا هذه الوسائط ، كما قال تعالى : { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [ النجم : 10 ] ؛ يعني : من القرآن وما يعد له يدل عليه قوله تعالى : { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } [ الرحمن : 1 - 2 ] ليلة المعراج ، وقال : صلى الله عليه وسلم " أوتيت القرآن وما يعد له " ، فقال تعالى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } [ النساء : 105 ] ؛ يعني : القرآن بلا واسطة ليلة المعراج { بِٱلْحَقِّ } [ النساء : 105 ] ؛ أي : الحق تعالى أنزله إليك نظير قوله تعالى : { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ } [ الإسراء : 105 ] ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصاً بهذه الكرامة من جميع الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " فضلت على الأنبياء بست ، فقال : أوتيت جوامع الكلام " ، ويؤكد ما قلنا في تأويل { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } [ النساء : 105 ] قوله تعالى : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ } [ النساء : 105 ] ؛ يعني : بما حين أوحى إليك بلا واسطة وأريك آياته الكبرى ، وقوله تعالى : { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } [ النجم : 11 ] ، بإراءة الله تعالى : { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] ؛ يعني : ولا تكن أبداً للخائنين خصيماً بما أريك الله من الحق ، وفي الآية تقديم وتأخير تقديره ولا تكن للخائنين خصيماً ، { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } [ النساء : 107 ] .