Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 26-28)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عن مراده لعباده بقوله تعالى : { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] ، إشارة في الآيات : إن الله تعالى أنعم على هذه الأمة بإرادة أشياء بهم : أولها : التبيين بقوله تعالى : { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] ؛ وهو أن يبين لهم الصراط المستقيم إلى الله . وثانيها : الهداية بقوله تعالى : { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [ النساء : 26 ] ؛ يعني : من الأنبياء والأولياء ، وهو أن يهديهم إلى صراط المستقيم بالعيان بعد البيان ، وثالثها : التوبة عليهم بقوله تعالى : { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ النساء : 26 ] ، { وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } [ النساء : 27 ] ، { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] ؛ وهي أن يرجع بهم إلى حضرته على صراط الله تعالى ، ورابعها : التخفيف عنهم بقوله تعالى : { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } [ النساء : 28 ] ؛ وهي أن يوصلكم إلى حضرته بالمعونة ويخفف عنكم المؤنة ، وهذا مما اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته لوجهين : أحدهما : إن الله تعالى أخبر عن ذهاب إبراهيم عليه السلام إلى حضرته باجتهاده ، وهو المؤنة ، وقال تعالى : { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا } [ الأعراف : 143 ] ، وأخبر تعالى عن آل نبينا صلى الله عليه وسلم : { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا } [ الإسراء : 1 ] الذي هو المعونة فخفف عنهم المؤنة . وأخبر عن حال هذه الأمة بقوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] ، وهذا أيضاً بالمعونة وهي جذبات العناية ، فقال صلى الله عليه وسلم : " جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين " ، وقوله : { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ * ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [ الفجر : 27 - 28 ] ، هو أيضاً جذبة العناية ، فافهم جيداً . والوجه الثاني : إن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته مخصوصون بالوصول والوصال مخففون عنهم كلفة الفراق والانقطاع ، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد حصن بالوصال إلى مقام { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } [ النجم : 9 ] { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } [ النجم : 13 ] ، وبقوله : { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } [ النجم : 11 ] ، وانقطع سائر الأنبياء - عليهم السلام - في السماوات السبع . كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة الإسراء قال : " رأيت آدم في سماء الدنيا ، إلى أن قال : رأيت إبراهيم في السماء السابعة " ، فعبر عنهم جميعاً إلى كمال القرب والوصول ، وأما الأمة فقال تعالى في حقهم : " من تقرب إليَّ شبراً ، تقربت إليه ذراعاً " ، وقال تعالى : " لا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته ، كنت له سمعاً وبصراً " ، وهذا هو حقيقة الوصول والوصال ، ولكن الفرق بين النبي والولي في ذلك : إن النبي مستقل بنفسه في السير إلى الله ، ويكون خطه من كمل مقام بحسب استعداده الكامل ، والولي لا يمكنه السير إلى الله إلا في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تسليكه في سبيل { أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [ يوسف : 108 ] ، ويكون خطه من المقامات بحسب استعداده ، فافهم جيداً . ثم في قوله تعالى : { وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] ، على عقيب هذه البشارات والإشارات ، إشارات أنه لو لم يكن جذبات العناية الأزلية في حق الإنسان لما وصل سير خشيته إلى سرادقات جلال صمديته ، ولو قدر لواحد قوة سير الثقلين إلى الأبد ، وهذا أحد معاني قوله صلى الله عليه وسلم : " جذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين " ، وإن المجذوب يصل بقوة جذبة من جذبات الحق إلى مقام لا يصل إليه الثقلان بسعيهم ؛ لأن الإنسان خلق ضعيفاً وغيره أضعف منه ، فإن ضعف الإنسان إنما هو بالنسبة إلى قوة جلال الله وكماله ، وإنه أقوى من السماوات والأرض والجبال وأهاليها في حمل الأمانة المعروضة عليهن كلهن ، { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } [ الأحزاب : 72 ] ، فافهم جيداً . ثانيها : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } [ المعارج : 19 ] ضعيفاً لا يصير على الله لحظة فيما يكون على الفطرة الإنسانية ، { فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] ، فإنه { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، وقال شاعرهم : @ إذا لعب الرجال بكل شيء رأيت الحب يلعب بالرجال @@ والصبر في سائر الأشياء محمود ، وقال لبعضهم : @ الصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يحمد @@ وكان يستحي سلطان وقته محب الدين شرف بن يزيد البغدادي - قدس الله روحه - يقول يوماً في أثناء مجلسه : إن أبا الحسن الخرقاني - رحمه الله - كان يقول : لو لم ألق نفساً لن أبق ، ثم قال : لا يعظم عليكم هذا المقام ، فإني رجعت لله بكثير من أصحابي عن هذا المقام . ثم اعلم أن الإنسان ممدوح بهذا الضعف ؛ يعني : أن لا يصبر لضعفه عن الله تعالى فإنه مخصوص عن العالمين بشرف هذا الضعف ، فإن من عداه يصبرون عن الله تعالى ؛ لعدم اضطرارهم في المحبة ، والإنسان مخصوص بالمحبة بدليل { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] . وثالثها : إن الإنسان مع اختصاصه بقوة حمل الأمانة وانجذابه العناية خلق ضعفاً عند سطوات تجلي الصفات ومن صفات الله تعالى ، ألم تر كيف كان حال موسى عليه السلام { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً } [ الأعراف : 143 ] . ورابعها : إن الصبر عن الله وإن كان شديداً ، فالصبر مع الله أشد وأشد ؛ لأن الإنسان خلق ضعيفاً ، ونقصان هذا الضعف فيه بكمال قوة سطوة تجلي ربه ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يغان على قلبه ؛ لضعف خلقته ، فكان عند استغراق الشهود وغلبات الأحوال يقول : " كلميني يا حميراء " ، أو كان النبي يقول : " لا معك قرار ولا منك فرار المستعان منك بك إليك " . واعلم أن الضعف مخصوص بالإنسان وهو سبب كماله وسعادته ، وسبب نقصانه وشقاوته ، يتغير من ضعفه من حال إلى حال ومن صفة إلى أخرى ، فيكون ساعة بصفة بهيمية يأكل ويشرب ويجامع ، ويكون ساعة أخرى بصفة ملك يسبح بحمد ربه ويقدس له ، ويفعل ما يؤمر ولا يعصي فيما نهاه عنه ، وهذه التغيرات من نتائج ضعفه ، وليس هذا الاستعداد لغيره ، حتى الملك لا يقدر أن يتصف بصفات البهيمية ، والبهيمية لا تقدر أن تتصف بصفات الملك ؛ لعدم ضعف الإنسانية ، وإنما خص الإنسان بهذا الضعف لاستكماله بالتخلق بأخلاق الله واتصافه بصفات الله تعالى ، كما جاء في الحديث الرباني : " أنا ملك حي لا يموت أبداً ، عبدي أطعني أجعلك حياً ملكاً لا تموت أبداً " ، فعند هذا الكمال يكون خير البرية ، وعند اتصافه بصفات البهيمية يصير شر البرية ، فافهم جيداً .