Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 101-104)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن كثرة السؤال أحثها تورث الملال بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ } [ المائدة : 101 ] ، إشارة أن الله تعالى نهى أهل الإيمان أن يتعلموا علم اللدنية وحقائق الأشياء بطريق السؤال ؛ لأنها ليست من علوم القال وإنها من علوم الحال ، فقال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ } ، أي : من حقائق الأشياء { إِن تُبْدَ لَكُمْ } [ المائدة : 101 ] ، بيانها بطريق القال { تَسُؤْكُمْ } [ المائدة : 101 ] ؛ إذ لم تهتدوا إلى الحقائق ببيان القال فتقع عقولكم المنسوبة بآفات الهوى والوهم والخيال في الشبهات فتهلكوا في أوديتها كما كان طوائف حال الفلاسفة ؛ إذا طلبوا علوم حقائق الأشياء بطريق القال والبراهين المعقولة ، فما كان منها مندرجة تحت نظر العقل المجردة عن شوائب الوهم والخيال أصابوها المتحذلقة منهم ، وهو من يدعي الحذاقة أكثر مما عنده ، وما ضاقت منه نطاق العقول عن دركها استزلهم الشيطان عند البحث والنظر عن الصراط المستقيم ، وأوقعهم في أودية الشبهات بوادي المهلكات فهلكوا وأهلكوا خلقاً عظيماً بتصانيفهم في العلوم الإلهية ، وبعضهم خلطوا العلم الأصول وقرروا شبهاتهم فيما ضلوا عن سواء السبيل ، وما علموا أن تعلم علوم الحقائق بالقال محال ، وإنما تعلمها يحصل بالحال كما كان حال الأنبياء - عليهم السلام - مع الله تعالى ، فقد أعلمهم علوم الحقائق بالإرادات لا بالروايات ، فقال تعالى { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 75 ] ، في حق النبي صلى الله عليه وسلم : { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ } [ طه : 23 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم إرثاء الأشياء كما هي ، وكما كان حال الأمة مع النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم الكتاب بالقال ، والحكمة بالحال بطريق الصحبة وتزكية نفوسهم عن شوائب آفات النفس وأخلاقها ، كقوله تعالى فيمن تحقق له فوائد الصحبة على موائد المتابعة { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] ، ثم قال تعالى : { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } [ المائدة : 101 ] ، وإن كان لا يدلكم من السؤال عن حقائق الأشياء ، فاسألوا عنها بعد نزول القرآن أي : عن القرآن ليخبركم عن حقائقها على قدر عقولكم ، فأما العوام منكم فيؤمنون بمتشابهات القرآن فإنها بيان حقائق الأشياء ويقولون كل من عند ربنا ولا يتصرفون فيها بعقولهم طلباً للتأويل فإنه { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } [ آل عمران : 7 ] ، وهم الخواص ، وأما الخواص فيفهمون عما يشير القرآن إليه من حقائق الأشياء بالنور والإشارات والمتشابهات حالاً يفهِّم غيرهم ، كما أشار تعالى بقصة موسى والخضر - عليهما السلام - إلى أن تعلم العلم اللدني إنما يكون بالحال في الصحبة والمتابعة والتسليم وترك الأغراض على الصاحب المعلم لا بالقال والسؤال بقوله تعالى : { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [ الكهف : 66 - 67 ] ؛ يعني : في المتابعة والتسليم وترك الاعتراض { قَالَ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً * قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ } [ الكهف : 69 - 70 ] ؛ يعني : أن من شرط المتابعة ترك السؤال عن الأفعال ، وغيرها فلما لم يستطع موسى عليه السلام معه صبرا قال - يعني موسى - { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَٰحِبْنِي } [ الكهف : 76 ] ، يشير إلى أن يعلم العلم اللدني بالحال في الصحبة والمتابعة والتسليم لا بالقال السؤال ، وفي السؤال الانقطاع عن الصحبة فافهم جيداً . فلا عاد في الثالثة إلى السؤال ، وقال : { قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 77 - 78 ] ، قال : { عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا } [ المائدة : 101 ] ؛ أي : عما سألتهم وطلبتم علوم الحقائق بالقال قبل نزول هذه الآية { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } [ المائدة : 101 ] لمن تاب ورجع إلى الله في طلب علوم الحقائق بالقال والسؤال { حَلِيمٌ } [ المائدة : 101 ] ، بأن يطلب بالحال يحلم عنهم في أثناء الطلب بالصدر منهم مما ينافي أمر الطلب إلى أن يوفقهم لما يوافق الطلب ، قال تعالى : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 102 ] ؛ يعني : من مقدمي الفلاسفة قد شرعوا في طلب العلوم الإلهية بالقال ونظر العقل فوقعوا في أودية الشيطان { ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } [ المائدة : 102 ] ؛ أي : بسبب الشبهات التي وقعوا فيها بتتبع القال والقيل وكثرة السؤال وترك متابعة الأنبياء - عليهم السلام ـ . ثم أخبر عن اعتراض أهل الافتراء بقوله تعالى : { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } [ المائدة : 103 ] ، إشارة أن الشيطان كما سلط على قوم حتى أغراهم على الابتداع في أحكام الأنعام وترك الاتباع ، كذلك سلط على قوم قادر على التصرف في أنعام أجسامهم ونفوسهم مبتدعين غير متبعين وهم يزعمون أن هذه التصرفات في الله ، ففي قوله تعالى { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ } إشارة إلى أن من يتصرف في بدنه بما لم يؤمر به كمن يشق أذنه أو ينقبها ، ويجعل فيها الخلقة من الحديد أو يثقب صدره أو ذكره ، ويجعل عليه الغفل أو يجعل في عنقه الغل ويحلق لحيته مثل ما يفعلون هؤلاء القلندرية ، ولا سائبة وهم الذين يدورون في البلاد ومنهم مسيبين ، خليعي العذار يرتعون في مراتع البهيمية والحيوانية بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ، وهم يدعون أنهم أهل الحقيقة ، قد لعب الشيطان بهم واتخذوا إلههم هواهم ، { وَلاَ وَصِيلَةٍ } [ المائدة : 103 ] وهم الذين به يبيحون المحرمات ويستحلون الحرمات ، ويتصلون بالأجانب من طريق الأخوة والأبوة كالإباحية والزنادقة ، فيغتر به ويظن أنه بلغ مقام الوحدة وأنه محمي عن النقصان بكل حال ، ولا تضره مخالفات الشريعة ؛ إذ هو بلغ مقام الحقيقة ، فهذا كله من وساوس الشيطان وهواجس النفس ما أمر الله بشيء من ذلك ولا خص لأحد فيه ، { وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ المائدة : 103 ] ، بترك الشريعة وادعوا الحقيقة { يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } [ المائدة : 103 ] ، بمثل هذه الأشياء إنها من الله ولله وفي الله { وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ المائدة : 103 ] ، إن هذا من الشيطان لا من الرحمن ، وذلك أن أكثرهم قد أخذوا هذه الطريقة المضلة بالتقليد من الجهال وأهل الضلال { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } [ المائدة : 104 ] ، من الأحكام { وَإِلَى ٱلرَّسُولِ } [ المائدة : 104 ] ؛ أي : وإلى متابعته { قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ } [ المائدة : 104 ] ؛ أي : مشايخنا وأهل صحبتنا الذين أخذوا هذه الطريقة السوء منهم { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } [ المائدة : 104 ] ، الذين وضعوا هذه الطريقة وابتدعوها { لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً } [ المائدة : 104 ] ، من الشريعة والطريقة { وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ المائدة : 104 ] ، إلى عالم الحقيقة فإنهما أهل الطبيعة وأرباب الخديعة ، ولقد شاعت في الآفاق فتنتهم وكملت فيهم غرتهم ، وما لهم من دافع ولا مانع ولا وازع على أن الخرق قد اتسع على الرفع .