Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 17-20)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عن حظ اليهود والنصارى من الدنيا إذا نسوا حظهم من المولى بقوله تعالى : { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } [ المائدة : 17 ] ، إلى قوله : { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [ المائدة : 18 ] ، والإشارة فيهما أن الله تعالى أظهر ظلومية الإنسان وجهوليته عند الخذلان وعدم العناية حتى كفر بقول : { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } ولم يتفكر أن من اشتمل عليه أرحام الصلوات متى يفارقه نقص الخلقة وضعف البشرية ومن لاحت عليه شواهد التغير أنى يليق به نعت الألوهية فقال تعالى : { قُلْ } [ المائدة : 17 ] ، في جواب هؤلاء المغرورين الممكورين { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } [ المائدة : 17 ] ، يعني : أن الإله هو الذي يملك التصرف في الأشياء كلها ولا يملك أحد على التصرف فيه بشيء ما ، فمن يملك من الله شيئاً بالدفع والمنع { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [ المائدة : 17 ] ، قهراً منه بشؤم قولكم : إن الله هو المسيح ابن مريم : { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } [ المائدة : 17 ] ، يعني : يستحق الألوهية من له ملك السماوات والأرض وملك التصرف فيهما وتصرف لأحد فيه فيمنعه عن التصرف فيهما { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } [ المائدة : 17 ] ، لما يشاء متى يشاء كيف يشاء : { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ المائدة : 17 ] ، يعني : الإله من يكون بهذه الصفة . { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ } [ المائدة : 18 ] ، من غاية خذلانهم وجهلهم وطغيانهم { نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ } [ المائدة : 18 ] ، أي : رسلنا أبناء الله يدل عليه قوله تعالى : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [ التوبة : 30 ] . { وَأَحِبَّٰؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، أي : نحن أولياؤه يدل عليه قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ } [ الجمعة : 6 ] ، ثم ألزمهم الحجة وقال تعالى : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } [ المائدة : 18 ] ، إن كنتم أحباء الله والمعنى من تعذيبهم قولهم : { نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ } [ المائدة : 18 ] فقد عذبهم بهذا القول عاجلاً لاستكمال تعذيبهم آجلاً بذنوب تقدمت منهم من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وتغيير نعته وتحريف كلام الله تعالى { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } [ المائدة : 18 ] ؛ يعني : من عوام الخلق لا من الذين اختصهم بعد أن خلقهم في ظلمة الخلقة بإفاضة رشاش النور عليهم وإصابته ، فإنهم الأولياء والأحباء وإن الله لا يعذبهم بذنوب تصدر منهم عند الابتلاء بل يتوب عليهم ويبدل سيئاتهم حسنات كما كان حال آدم عليه السلام كان منه ما كان كقوله تعالى : { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [ طه : 121 ] ، وكان من الله ما قال : { ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } [ طه : 122 ] ، ثم أثبت الملك والقدرة والمشيئة والاختيار والإرادة كله لنفسه جل جلاله { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [ المائدة : 18 ] ، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإصابة رشاش النور في البداية وبالإيمان والعمل الصالح في الدنيا ، وبالمغفرة ودخول الجنة وسعادة الرؤية في العقبى { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } [ المائدة : 18 ] ، من أهل الكتاب بإخطاء النور في بدء الخلقة وبالكفر والشرك في الدنيا وبالقطيعة والحجاب ودخول النار في العقبى { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } [ المائدة : 18 ] ، يتصرف في حكمه كيف يشاء فيجعل أقواماً مظهر صفات لطفه وجماله ، كما فعل بأمة محمد صلى الله عليه وسلم وأقواماً مظهر صفات قهره وجلاله كما فعل بأهل الكتاب والمشركين منهم وسائر الكفار ، { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [ المائدة : 18 ] ، للفريقين { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ } [ الشورى : 7 ] ، وهي دار لطفه وجماله { وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } [ الشورى : 7 ] ، هي دار قهره وجلاله . ثم أخبر عن تأكيد الحجة وإظهار الحجة بقوله تعالى : { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ } [ المائدة : 19 ] ، والإشارة فيها أن الله تعالى خاطب اليهود والنصارى وقال : { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ } [ المائدة : 19 ] يشير إلى أنكم لستم أهل الله الذين يتدارسون الكتاب لله ؛ بل أنتم من أهل الكتاب الذين يطلبون من دراسة الكتاب والعلوم الشهرة طلباً للرئاسة والوجاهة وقبول الخلق والمنافع الدنيوية . { قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا } [ المائدة : 19 ] فيه نكتة وهي أنه تعالى أضاف الرسول إلى نفسه وقال : { رَسُولُنَا } [ المائدة : 19 ] وما أضاف إليهم ؛ لأن فائدة رسالته لم تكن راجعة إليهم ، ولما خاطب هذه الأمة أخبرهم عن مجيء الرسول إضافة إلى نفسه وإنما جعله من أنفسهم فقال تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] ؛ لأن فائدة رسالته راجعة إلى أنفسهم . ثم قال تعالى : { يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ } [ المائدة : 19 ] ؛ يعني : يبين لكم أن تكونوا أهل الله لأنكم حصلتم على فترة من الرسل وما بين لكم من بيان رسول ألا تقنعوا من الدين باسم ، ولا من الكتاب برسم ، ومن الدراسة بذكر فينبئكم رسولنا برسالتنا ويبشركم بالوصول إلينا ، وينذركم من القطيعة عنا { أَن تَقُولُواْ } [ المائدة : 19 ] يوم القيامة في مقام الحسرة والندامة ، { مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [ المائدة : 19 ] ، بشركم بنا ونذير ينذركم عنا ويدعوكم إلينا ويكون لكم سراجاً منيراً تهتدون به إلينا كقوله تعالى : { إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } [ الأحزاب : 45 ] ، وليكون حجة الله عليكم ولا يكون لكم حجة على الله ، { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ المائدة : 19 ] ، مما يدعوكم إليه الرسول ويبشركم به وينذركم عنه ، { قَدِيرٌ } [ المائدة : 19 ] ، قادر على أن يعطيكم ما وعدكم رسوله ؛ لأن الله لا يخلف الميعاد . ثم أخبر عن فضله وكرمه وما أتاكم من نعمه بقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 20 ] ، إلى قوله : { قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، والإشارة فيها أن الله تعالى أظهر الفرق بين هذه الأمة وبين بني إسرائيل على لسان نبيهم ؛ إذ قال موسى لقومه : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم وتولى أمر هذه الأمة بنفسه تعالى وقال : { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] ، فشتان بين من أمره سبحانه بذكره وبين من يذكر نعمه ، ثم عدد ما أنعم به عليهم ، فقال تعالى : { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ } [ المائدة : 20 ] ، من الآيات والمعجزات والنعم الظاهرة والبراهين الباهرة ، فلما لم يكونوا أهلاً لهذه الكرامات ومستحقاً لهذه السعادات ابتلاهم بدخول الأرض المقدسة .