Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 54-57)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن أهل المحبة في الدنيا وأهل المحنة في العقبى بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } [ المائدة : 54 ] ، إشارة أن الدين الحقيقي هو طلب الحق فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ المائدة : 54 ] ، بطلب الحق بعد أن كانوا في ضلالة طلب غير الحق من يرتد منكم عن دينكم ، وهو طلب الحق حقيقته طالباً غير الله من الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ } [ آل عمران : 152 ] ، حتى قرئ هذه الآية عند النبي - رحمه الله - فشهق شهقة ، وقال : ثمناً حد ، فقال : ومنكم من يريد الله { فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، فخص هذه المرتبة بقوم دون قوم ، لا ريب أن هذا القوم هم أرباب السلوك من المشايخ الذي جذبتهم العناية بجذبات المحبة الإلهية عن أوطار أوصاف الخلقة إلى مرادفات جلال الصمدية نفاهم عنهم بسطوات يحبهم ، ثم إبقائهم به بهبوب نفحات يحبونه ، فإن العبدية إفناء الناسوتية في اللاهوتية ، وإن محبة الله العبد بقاء اللاهوتية في إفناء الناسوتية ، فالله تعالى يحب العبد بصفة ذاته أزلاً ، وهي الإرادة القديمة المخصوصة بالعناية ، والعبد يحب الله تعالى بذات تلك الصفة ، فافهم جيداً فتكون من إمارة تلك المحبة الأزلية الأبدية لهم أن تكون { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ المائدة : 54 ] ، لفناء الناسوتية وارتفاع الأنانية { أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] ، ببقاء اللاهوتية وإثبات الوحدانية { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ المائدة : 54 ] ، في طلب الحق في البداية ويبذل الوجود { وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ } [ المائدة : 54 ] ، عند غلبات الوجود في الوسط لدوام الشهود { ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [ المائدة : 54 ] ؛ يعني : صدق الطلب في البداية ، وغلبات الوجد في الوسط ، والاختصاص بالمحبة في النهاية لنيل المقصود { وَٱللَّهُ وَاسِعٌ } [ المائدة : 54 ] ، كرم أن يتفضل بذلك على كل أحد لكنه { عَلِيمٌ } [ المائدة : 54 ] ، بمن يستحق لهذه الفضيلة ويستعد للتوسل بهذه الوسيلة . ثم أخبر عمن مشمول العناية منهم إنه المنعوت بالولاية بقوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } [ المائدة : 55 ] ، إشارة أن الله تعالى أعز المؤمنين بعز موالاته وموالات رسوله وموالات المؤمنين فقال : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ المائدة : 55 ] ، فموالات الله في معادات ما سوى الله كما كان حال الخليل عليه السلام قال : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 77 ] ، ومولاة الرسول في معاداة النفس ومخالفة الهوى كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " ، ومولاة المؤمنين في مؤاخاتهم في الدين كقوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ، وقيل : من عادى نفسه لم يخرج بالمخاصمة عنها مع الخلق وبالمعارضة فيها مع الحق ، ثم أخبر عن أهل الموالاة من المؤمنين بقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ } [ المائدة : 55 ] ؛ أي : بديمومتها محافظاً حدودها في الظاهر مراقباً حقوقها في الباطن بمراعاة السير مع الله أن لا يخطر بباله غير الله { وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } [ المائدة : 55 ] ، أي : يبذلون ما زكى من وجودهم في طلب الحق وهو الفناء في الله { وَهُمْ رَاكِعُونَ } [ المائدة : 55 ] ، راجعون إلى الله بالانحطاط من قيام البشرية إلى القيام بالقيومية { وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ المائدة : 56 ] فهم من { فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ } [ المائدة : 56 ] ، أهل الله وخاصيته { هُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [ المائدة : 56 ] ، أهوائهم وأنفسهم وعلى الدنيا والشياطين القائمون مع الله على نشر الاستقامة . ثم أخبر عن صفة الأعداء ، وأنهم لا يصلحون لهؤلاء بقوله تعالى : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ } [ المائدة : 57 ] ، الإشارة أن لا تحجبوا إلى الملاينة مع أعداء الدين يا أهل الإيمان خصوصاً مع الذين اتخذوا { دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 57 ] ، من أهل الأديان والملل { وَٱلْكُفَّارَ } [ المائدة : 57 ] ، ولا تتخذوهم { أَوْلِيَآءَ } [ المائدة : 57 ] ، فإنهم أعداء الله وأعداءكم ، وفيه أيضاً إشارة إلى أهل التحقيق ؛ الذين هم أهل المحبة المجذوبون إلى سراء قلق الجلال بجذبات الوصال ، أن لا تتلوا أهل الغفلة والسلوة الذين اتخذوا دينكم ومنهيكم في المحبة والطلب هزوا ولعباً للجهل بأموالكم والغفلة عن أمالكم من الذين أوتوا الكتاب ؛ أي : العلوم الظاهرة من الثقليات والكفار ؛ يعني : الفلاسفة الذين يمسكوا بالعلوم من العقليات ، فإنهم بمعزل عن العلوم من الدنيا والكشفيات فلا تتخذوهم أولياء فإن بعضهم أولياء بعض والضدية بينكم وبينهم قائمة ، فإن الناس أعداء ما جهلوا من لم يتق لا يدري فلم يدروا أن لا يدروا فهم يحسبون أنهم يدرون ، فهذا هو الجهل المركب ، فافهم جيداً { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [ المائدة : 57 ] ، واخشوه ولا تخشوا غيره { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 57 ] ، بأن لا وجود إلا الله ولا يوجد سوى الله .