Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 51, Ayat: 16-23)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } [ الذاريات : 16 ] اليوم بقلوب فارغة من الله من أصناف ألطافه ، وغداً يأخذون ما يعطيهم ربهم في الجنة من فنون العطاء والرغد ، { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } [ الذاريات : 16 ] ؛ أي : قبل أن كانوا في الوجود وكانوا في العدم { مُحْسِنِينَ } [ الذاريات : 16 ] ، وإحسانهم أنهم كانوا محبين الله بالله ، كما قال تعالى : { وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] وهم بعد في العدم . ولما حصلوا في الوجود { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 17 ] ؛ أي : كانوا قليلاً ، وكانوا لا ينامون بالليل كقوله : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : " نوم العالم عبادة " ، فمن يكون في العبادة نائماً ؟ { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 18 ] ؛ أي : يستغفرون عن رؤية عبادات يعلمونها في سهرهم إلى الأسحار بمنزلة العاصين ، يستغفرون استصغاراً لقدرهم واستحقاراً لفعلهم ، والليل إما للأحباب في أنس المناجاة وإما للعصاة في طلب النجاة ، والسهر لهم في لياليهم دائم ؛ لفرط أسف أو لشدة لهف ، وإما للاشتياق أو للفراق ، كما قال : @ وأكم ليلة فيك لا صباح لها أفنيتها قابضاً على كبدي قد عضت العين بالدموع وقد وضعت خدي على بنان يدي @@ وإما لكمال أنس وطيب روح ، كما قالوا : @ سقى الله عيشاً نضيراً مضى زمان الهوى في الصبا والمجون لياليه تحكي انسداد اللحاظ للعين عند ارتداد الجنون @@ وبقوله : { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ الذاريات : 19 ] ، يشير إلى ما آتاهم الله من فضله من المقامات والكمالات ، أنه فيها حق للطالبين الصادقين إذا قصدوهم من أطراف العالم في طلبها إذ عرفوا قدرها ، والمحروم من لم يعرف قدر تلك المقامات والكمالات ، فاقصدوهم في طلبها فلهم في ذمة هؤلاء الكرام حق التفقد والنصح ، " فإن الدين النصيحة " ؛ فإنهم بمنزلة الطبيب ، والمحروم بمنزلة المريض ، فعلى الطبيب أن يأتي إلى المريض ، ويرى نبضه ويعرف علته ويعرفه خطرها ، ويأمره بالاحتماء عن كل ما يضره ، ويعالجه بأدوية تنفعه إلى أن يزول مرضه وتظهر صحته . { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [ الذاريات : 20 ] ، منها أنها تحمل كل شيء ، فكذلك الموقن العارف يحمل كل حمل من كل أحد ، ومن استثقل حملاً وتبرم برؤية أحد ؛ ساقه الله إليه فلغيبته عن الحقيقة ومطالعته الخلق بعين التفرقة ، وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة ، ومنها أنه يلقى عليها كل قذارة وقمامة فتنبت كل زهر ونور وورد ، كذلك المعارف يتشرف ما يسقي من الجفاء ، ولا يترشح إلا بكل خلق على شيمة زكية ، ومنها أن ما كان منها سبخاً يترك ولا يعمر ؛ لأنه لا يتحمل العمارة كذلك من الإيمان له بهذه الطريقة يهمل ؛ فإن مقابلته بهذه القصة كإلقاء البذر في الأرض السبخة . وبقوله : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] ، يشير إلى أن نفس الإنسان مرآة جميع صفات الحق تعالى ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " من عرف نفسه فقد عرف ربه " ، فلا يعرف أحد نفسه إلا بعد كمالها ، وكمالها في أن تصير مرآة تامة مصقولة قابلة لتجلي صفات الحق لها ؛ فيعرف نفسه بالمرآتية ويعرف ربه بالتجلي فيها ، كما قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] . وبقوله : { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] ، يشير إلى سماء الأرواح ، كما ينزل ما هو سبب رزق الأبدان من سماء الصورة كذلك ينزل ما هو سبب رزق القلوب وحياتها من سماء الأرواح من الطوالع واللوامع والشواهد والتجليات الروحانية والتجليات الربانية ، { وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] ، " ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " . { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ } [ الذاريات : 23 ] ؛ أي : فكما قولكم أن الله خالق السماء والأرض حق ؛ كذلك القول فإنه الرازق حق ووعده حق لكم ، { مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] ؛ يعني : كما أنطقكم الله فينطقون بقدرته بلا شك حق من الله أن يرزقكم ما وعدكم ، وإنما اختص التمثل بالنطق ؛ لأنه مخصوص بالإنسان وهو أخص صفاته .