Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 1-5)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [ الأنعام : 1 ] ، الإشارة فيها أن الله تعالى ذكر الحمد بالألف واللام وهي لاستغراق الجنس ، وفي قوله تعالى : { للَّهِ } لام التمليك يعني : في حمد يحمده أهل السماوات والأرض في الدنيا والآخرة ملك له ، وهو الذي أعطاهم استعداد الحمد يحمده بآثار قدرته على قدر استعدادهم واستطاعتهم ؛ فأين المحامد للجن والإنس متسعات لحد جناب القدس ؟ ! بل هو حمد نفسه القديم الأزلي ، وقال : " الحمد لله حمد الخلق له مخلوق " ، فإن حمده لنفسه قديم باقٍ ، ثم عرف نفسه بصنعته ، فقال : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } ؛ أي : سماوات القلوب في أرض النفوس وجعل الظلمات في النفوس ، وهي صفاتها البهيمية والحيوانية وأخلاقها السبعية والشيطانية والنور في القلوب ، وهي صفاتها الروحانية الباقية ، وإنما ذكر بلفظ الجعل ؛ لأن النور والظلمة من عالم المعاني وهو عالم الأمر كقوله تعالى : { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [ الأعراف : 54 ] ، ألا له الخلق والأمر فالسماوات والأرض من عالم الصورة ذكرها بلفظ الخلق كقوله تعالى : { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } والنور والظلمة من عالم المعنى ذكره بلفظ الجعل . وقال : { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] ، كما أنه تعالى مهما ذكر آدم وأخبر عن معناه ذكره بلفظ الجعل ، كقوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] ، فهذا هو الفرق بين الجعل والخلق فمن غلب عليه النور ، فهو صفة الملكية الروحانية يميل إلى عبودية الخلق تعالى ويقبل دعوة الأنبياء - عليهم السلام - ويؤمن بالله ورسله ويتحلى بحلية الشريعة ، فإن الله تعالى يكون وليه فيخرج من ظلمات صفات الخلقية الحيوانية إلى صفات الملكية الروحانية ، كقوله تعالى : { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ البقرة : 257 ] ، ومن غلبت عليه ظلمات البشرية الحيوانية واتبع طاغوت الهوى واستلذ بشهوات الدنيا ، فالطاغوت يكون وليه فيخرجه من نور الروحانية إلى ظلمات الصفات الحيوانية ، كقوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } [ البقرة : 257 ] ، فهذا معنى قوله تعالى : { ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] ؛ يعني : بعد أن خلق سماوات القلوب وأرض النفوس ، وجعل فيهن الظلمات النفسانية والنور الروحاني مالت نفوس الكفار بغلبات صفاتها إلى طاغوت الهوى تعبدوه وجعلوه عديلاً لربهم . ثم أخبر عن الهوية بهويته بقوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ } [ الأنعام : 2 ] ، الإشارة فيها أنه تعالى يعرف نفسه سبحانه بإظهار كمال قدرته على أن يخلق من الطين بشراً وأولاداً ، كما قال تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ } ، فيسويه بحكمته قابلاً لفتح الروح الخاص منه فيه يستحق سجود الملائكة ، كقوله تعالى : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ ص : 71 - 72 ] ، { ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً } [ الأنعام : 2 ] ؛ يعني : الروح المفارق عن مكثه قضي إجلالاً لأيام فراقه عن الحضرة وبُعده عن وطن الحقيقي { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] ، وهو أجل الوصلة بعد الغرقة في مقام العندية ، كقوله تعالى : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 55 ] ، فلأجل الفرقة مدى ومنتهى ولأجل الوصلة لا مدى ولا منتهى وإنما قال تعالى مسمى لأن وقت الوصلة مسمى عنده ، وهو حين يجذب إليه بجذبة { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } [ الفجر : 28 ] ، فلأيام الوصلة ابتداء ، وهو حين تطلع شمس التوحيد عن شرق القلوب إلى أن تبلغ حق شراء الوحدة ، ثم شروق فلا غروب لها { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } [ الأنعام : 2 ] ، يا أهل الوصلة كما يمترون أهل الفرقة هذا محال جدّاً . ثم أخبر عن مرام وجههم بقوله تعالى : { وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 3 ] ، إلى قوله : { يَسْتَهْزِءُونَ } [ الأنعام : 5 ] ، والإشارة فيها أنه هو الله في سماوات القلوب وفي أرض النفوس { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ } [ الأنعام : 3 ] ، الذي أودع فيكم وهو سر الخلافة الذي اختص به الإنسان لقبول الفيض الإلهي { وَجَهْرَكُمْ } [ الأنعام : 3 ] ؛ أي : ما هو ظاهر منكم من الصفات الحيوانية والأخلاق النفسانية { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 3 ] ، باستعمال الاستعداد السر والجهر والمأمورات والمنهيات من الخير والشر ، وقد خص الإنسان بهذا الكسب أيضاً من الملك والحيوان ، فإن الملك لا يقدر أن يكسب من الصفات الحيوانية شيئاً ، ولا الحيوان قادر على أن يكسب من الصفات الملكية شيئاً والإنسان متصرف في هاتين الصفتين ، وله اكتساب التخلق بأخلاق الله ، بالتقرب إلى الله بأداء ما فرض عليه والتزام النوافل واجتناب النواهي إلى أن يصير خير البرية ، وأيضاً أن يكتب من الشر ما يصير به شر البرية ، فيكون من أحواله ما أخبر عنه . وقال تعالى : { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَٰتِ رَبِّهِمْ } [ الأنعام : 4 ] ، في الآفاق وفي أنفسهم من المعجزات والكرامات والإلهامات { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [ الأنعام : 4 ] ، وذلك لإقبالهم على الدنيا وزينتها وشهواتها ، فصاروا كأنعام فكسبوا ما صاروا به من جملته بل هم أضل ، وذلك لأن لأنعام ما كذبوا بالحق وأنهم { فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ } [ الأنعام : 5 ] ، فتكذيب الحق صاروا أضل من الأنعام { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ } [ الأنعام : 5 ] ، في الدنيا والآخرة { أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [ الأنعام : 5 ] ، أما في الدنيا فقد استهزءوا بأقوال الأنبياء والأولياء وأحوالهم يعميهم الله ، ويعمي أبصارهم فلا يهتدون إلى الحق ولا إلى حقيقته سبيلاً ، وأما في الآخرة فيعذبهم بعذاب القطيعة والبعد والحرمان والخلود في النيران .