Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 75-79)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 75 ] ؛ أي : وكما أريناه ظلمة الكفر والضلالة المستورة في ملكوت آزر وقومه نريه ملكوت السماوات والأرض ؛ أي : باطنها ، واعلم أن لكل شيء من العالم ظاهراً يعبر عنه تارة لجسمانية لما له من الأبعاد الثلاثة من الطول والعرض والعمق والمتحيزية وقبول القسمة والتحري ، وتارة بالدنيا لدنوه إلى الحس وتارة بالصورة لقبول التشكل ولإدراكه بالحس ، وتارة بالشهادة لشهوده بالحس وتارة بالملك لتملكه والتصرف فيه بالحق وباطناً ، يعبر عنه تارة بالروحانية لانتفائه عن الأبعاد الثلاثة وعن التحيز والتجرؤ في الحس ، وتارة بالآخرة لتأخره عن الحس ، وتارة بالمعنى لتعريه عن التشكيل وبعده عن الحس ، وتارة بالغيب لغيبوبته عن الحس ، وتارة بالملكوت لملاك عالم الملك والصورة فإن قيام الملك لملكوت وقيام الملكوت لقدرة الله تعالى كما قال تعالى : { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس : 83 ] ، أي : من طريق الملكوت والملكوت من الأوليات التي خلقها الله من لا شيء بأمر { كُن } [ غافر : 68 ] ، وكان الله ولم يكن معه شيء يدل عليه قوله تعالى { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } [ الأعراف : 185 ] ، فنبّه إن الملكوت لم يخلق من شيء ، وما سواها خلق من شيء وقد سمي الله ما خلق بالأمر أو ما خلق من الشيء خلقاً فقال : { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } [ الأعراف : 54 ] فالله تعالى أرى إبراهيم عليه السلام ملكوت الأشياء والآيات المودعة فيها الدالة على التوحيد { وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } [ الأنعام : 75 ] ، بالوحدانية عند كشفها كما كان موقناً عند كشف الضلال المودع المستورة في ملكوت آزر وقومه { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ } [ الأنعام : 76 ] ، أي : فلما كمل ظلمة ليل البشرية على نور روحانيته أمطر سحاب العناية مطر الهداية على أرض قلبه ؛ فأنبت بذر الخلة المودعة في ملكوت قلبه التسليم على آفة فساد الاستعداد القابل لنور الرش فظهر حضرة القلب { رَأَى كَوْكَباً } [ الأنعام : 76 ] ، أي : نور الرش في صورة الكوكب من أفق سماء روحانيته طالعاً كشديد القوة الخيالية عند بقائها بعد كسوة الصورة الكوكبية المناسبة وانفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر كوكبه ، فشاهد السر نور الرشد بإراءة الحق فوافق نظر الظاهر نظر السر في مشاهدة الكوكب من أفق السماء ، فكوشف بتجلي نور الملكوت في مرآة الكوكب ؛ إذ هو نور السماوات والأرض ، وقال : { هَـٰذَا رَبِّي } [ الأنعام : 76 ] أراد به سره المكوكب لا الكوكب ، وإن تشعر به نفسه كما قيل : " هو في فؤادي ، ولم يعلم به بدني والجسم في غربة والروح في وطن " ، فإن كذب النفس فيما قال الكوكب { هَـٰذَا رَبِّي } [ الأنعام : 76 ] ما كذب الفؤاد وما رأى من المكوَّكِب { قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ } [ الأنعام : 76 ] ؛ أي : فلما احتجب كوكب نور الرشد بغلبات صفات الخلقية عند رجوعه إلى أوصافه ووافقه كوكب السماء بالغروب { قَالَ } [ الأنعام : 76 ] ، سره { لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } [ الأنعام : 76 ] ، وإنما أحب الذي لا يأفل { فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً } [ الأنعام : 77 ] ؛ أي : فلما اتسع انفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر القمر تجلى له نور الربوبية في مرآة القمر { قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ } [ الأنعام : 77 ] ، عند رجوعه إلى أوصافه وازدياد الكشوف { قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي } [ الأنعام : 77 ] ، يرفع حجب الأوصاف ويقيني على وجود الخلقية { لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ } [ الأنعام : 77 ] ، عن الحق كأبي وقومه { فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً } [ الأنعام : 78 ] ؛ أي : فلما انحرفت حجب الأوصاف وخرجت شمس الهداية من غيم البشرية وأشرقت أرض القلب بنور ربها { قَالَ هَـٰذَا رَبِّي } [ الأنعام : 78 ] ، وإنما قال هذا ، وما قال هذه لأنه أراد به نور الربوبية الذي تجلى له في مرآة الشمس لا الشمس ؛ لأنه لم يؤنثه كما أنث قوله تعالى فلما رأى الشمس بازغة يدل عليه قوله : { هَـٰذَآ أَكْبَرُ } [ الأنعام : 78 ] ، ولا أكبر على الحقيقة إلا الله { فَلَمَّآ أَفَلَتْ } [ الأنعام : 78 ] ، شمس الهداية تفرداً وتعظيماً ليعرض إبراهيم عليه السلام عن شركة الأنانية ، ويفني فيمن لا أقول له كما قيل : @ إِنَّ شَمسَ النَهارِ تَغرُبُ بِاللَيـ ـلِ وَشَمسُ القُلوبِ لَيسَ تَغيبُ @@ شبراً عن الأضداد والأنداد ، ونزعته همة الخلة عن الجهات والأكوان وخلقته تجلي صفة الجمال عن شبكة الوهم والخيال وأزعجته سطوات الجلال من مكامن الأنانية والإشراك { قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 78 ] . ثم أخبر عن إخلاصه في خلاصه بقوله تعالى : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [ الأنعام : 79 ] ، الآيتين الإشارة فيهما : أن مرآة قلب إبراهيم عليه السلام لما ملكت صفاتها وسلمت عن طبع الطبع ، وتنزهت عن ظلمة هوى النفس وشهواتها وتخلصت عن الالتفات إلى الكواكب والأكوان يصيبها الشوق الجلي إلى الحضرة في مجازاتها المقدسة عن الجهة قال : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [ الأنعام : 79 ] ؛ أي : وجهت وجهي بالإعراض عما سوى الله إلى الله الذي هو خالق السماوات والأرض وكواكبها والأرض وما فيها لما أراني في ملكوتها آياتها المتشوقة إلى وجهه الباقي { حَنِيفاً } [ الأنعام : 79 ] ، أي : مائلاً ميلان أهل الخلقة ببذل الوجود في خليله { وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 79 ] ، والمتلفتين إلى الأكوان المتدلين بالمخلوق على الخالق عاينت شواهد الحق بإرادته .