Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 64, Ayat: 1-5)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يا طالب معرفة تسبيح أهل السماوات والأرض : اعلم أنهم يسبحون الله بألسنة أحوالهم كلهم على قدرهم مما وصل إليه [ من ] رشاشة نور جوده الذي صار به موجوداً ، وظهر من كتم العدم إلى صحراء الشهادة ، وبه قائماً ، وبه حياً ، وبه باقياً ، وبه عارفاً ، واقرأ ما يقول الله تعالى في كلامه القديم ، وكتابه الكريم - متدبراً مرتلاً لتفهم حقيقة تسبيح ما في السماوات وما في الأرض حيث يقول - : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [ التغابن : 1 ] ، يعني : ينزهونه عن أن يكون في السماوات والأرض ؛ لأنه كان قبل خلق السماوات والأرض ، وينزهونه عن أن يعزب عنه مثقال ذرة في الأرضين السفلى والسماوات العلى ، { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } [ سبأ : 2 ] { لَهُ ٱلْمُلْكُ } ، في الشهادة خلقاً ، { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ } [ التغابن : 1 ] ، في الملكوت حقاً ، يعني : مع كمال قدرته ما تصرف في ملكه إلا حكمة وعدلاً ، { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ التغابن : 1 ] ، فيا أيها السالك ينبغي أن تعلم أنه خلق في أرض بشريتك قوى قابلة مظاهرة لصفة ربوبيته ، وخلق في سماوات روحانيتك قوى فاعلة مظاهر الصفة فاعلية ، وألّف ازدواجاً بين السفليات والعلويات بحكمته ؛ ليظهر لطيفة مجتمعة فيها القوى القابلة والفاعلة لتكون خلفته لذاته وصفاته وفي أرضه وسمائه ، وسَبَّحت له بجميع الألسنة والقوى المتفرقة . واعلم أن إشارته في قوله : { لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ } إشارة إلى الملك والملكوت ؛ لأن موجب إظهار الملك هو الحمد ، والحمد ملكوتي ، والحميد جبروتي ، والذات التي [ لها ] صفة الحميد لاهويته ، وفي كشف هذا السر يفتح باب إلى حد القرآن [ فسددته ] . { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } [ التغابن : 2 ] ، من المفردات ، ثم جمع أفراد المركبات السفلية والعلوية في قالب الإنسان وروحه ، وخلقه { فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] ؛ { فَمِنكُمْ كَافِرٌ } [ التغابن : 2 ] ، مظهر لقهره ، { وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] ، مظهر للطفه ، [ و ] القوى الأمارة الكافرة والقوى اللوامة المؤمنة جمعت في وجود بني آدم بقدرته ؛ فمن اقتدت باللطيفة المبلّغة وزكت قواها من رذائل الأخلاق المظلمة الترابية ، والصفات المردية المائية ، والخصائل المعنوية الهوائية ، والدعاوية المهلكة النارية ، وصفت أعمالهم عن قاذورات اجتماع هذه العناصر الغير المزكية ، وطهرت باطنها عن جنابة محبة الدنيا الدنية ؛ صارت لطيفة باقية منعمة أبد الآباد ، { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ التغابن : 2 ] ، من الخير والشر ، والسعيد سعيد في الأزل ، والشقي شقي لم يزل . قال الشيخ أبو يزيد البسطامي قدس سره : كل الناس يخافون من الخاتمة ، وإنا أخاف من السابقة ، جف القلم بما هو كائن ، { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] انتهى . وكيف يتصور الظلم ونحن نغرس أصل العنب في البستان ، ونسقيه من الماء ونربيه حتى يثمر العنب ونجنيه ، ونعصره ونأخذ منه صفاؤه ، ونجعل منه الحلاوة ، ونهرق على وجه الأرض العصارة المكدر وهو يقول بلسان الحال - إذا [ نظر ] إلى وجهها الأسود بإدراكها الذي حصل لها في العروج طوراً طوراً حتى وصل إلى [ العينية بالرائية ] - : { يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] كما كنت في الأرض قبل التركيب والتربية والعروج ، ولما كان إلى الشعور على سوادّية على شقاوتي ، وعلى أني مستحق تحت قدم الخلق ، وما كان هذا ظلماً ينسب إلى الدهقان ؛ فكيف يتصور أنه تعالى ظلم على أحد ؟ ! فكما كان استعداد كل أحد وحظه واحد من صفات لطفه [ أو ] قهره وقت التربية ظهر في العصر صفاء ، وفي العصارة كدر ، وتحقيق هذا السر يختص بمطلع القرآن ؛ فافهم أن الله تعالى خلق الخلق بحكمته ، وربّاهم بصفات قهره ولطفه ، وأرسل إليهم الرسول عليه السلام ليهديهم إلى سبيل التصفية والتنقية والتزكية والتربية ؛ فمن كان صالحاً للتربية صدق الرسول عليه السلام واشتغل بما أُمر به ، ومن كان فاسداً كذب الرسل ، وأقام على طبيعته المكدرة ، و { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ المائدة : 99 ] ، ولا يقدر أحد أن يهدي أحداً بغير إذن الله ، كما يقول في كتابه : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ القصص : 56 ] ، ويقول : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } [ النمل : 80 ] ، وما أنت إلا نذير . فيا أيتها اللطيفة المنذرَة : أنذري جميع القوى عشيرتك الأقربين أولاً ، ثم أنذري من كان حول مكة وجودك من الأقربين والأبعدين ، ثم أنذري جميع القوى التي في ملكك وملكوتك من القوى الترابية الأنسية ومن القوى النارية الجنية ، لأنك أرسلت إلى كافة الخلق بشيراً ونذيراً . { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } [ التغابن : 3 ] ، يعني : خلق سماوات روحانيتك اللطيفة ، وأرض بشريتك الكثيفة ، من لطفه وقهره بالحق ؛ ليظهر منها لطيفة مستحقة لمظهرية ذاته ، والمفردات ما كانت مستحقة لمظهرية ذاته ؛ لأن المفردات مظاهر [ لطافات ] أفعاله ، والمركبات السفلية مثل المعادن والنبات والحيوان ما كانت مستحقة لمظهرية ذاته أيضاً ؛ لعدم اللطائف العلوية فيها ، والمركبات العلوية قوى فاعلات ، واللطائف السفلية قوى قابلات ؛ فلأجل هذا جمعت في [ نشأة ] الإنسان صارت مظاهر لذاته ، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : " خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ " ، ولهذا السر قَبِلَ حمل الأمانة { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [ التغابن : 3 ] ، كما بينا { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [ التغابن : 3 ] ، بعد خراب البدن ، واكتساب استعدادات المظهرية مرجع الإنسان إلى حضرته . { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ التغابن : 4 ] ، كما أشرنا إليه { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ التغابن : 4 ] ، لأنه معهم ، ويطلع على قوى سرهم وقوى علانيتهم ، { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } [ التغابن : 4 ] ، لأن فساد عالم كونك وصلاحه مربوط بسماء الصدر التي هي سماء الدنيا ، وهي ذات البروج . { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } [ التغابن : 5 ] ، من قوى القالبية الكافرة ؛ { فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } [ التغابن : 5 ] ، يعني : جزاء أعمالهم ، والعذاب الذي لحق بهم من مشتهياتهم العاجلة ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ التغابن : 5 ] ، مدخر في دار الآخرة بعد خراب البدن .