Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 67, Ayat: 1-5)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يا طالب سر الملك والملكوت اعلم أن سرهما في يدي مالك الملك والملكوت ، كما يقول في كتابه الكريم : { بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [ يس : 83 ] ، و { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } [ الملك : 1 ] ، والملك إشارة إلى : عالم الناسوت ، واليد إشارة إلى : عالم الجبروت ، { وَهُوَ } إشارة إلى : عالم اللاهوت ، فتبارك وتعالى الذي بيده الملك والملكوت أن تشبه يده الأيدي ، وتنزهت وتقدست ذاته أن تكون معطلة عن الصفات الحسنى ؛ ولكن ينبغي أن يكون السالك سنياً لا ظاهرياً ، ولا باطنياً ، ولا مشبهياً ، ولا معطلياً ليعرف سر اليد المذكورة في كلام الرب ، وسر ما قال سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الطويل : " كلتا يدي الرحمن يمين " ، ولا يمكن لك المعرفة بهذا الحديث إن كنت جامداً بليداً ؛ فأشعل نار الذكر حتى تذهب جمودتك وبلادتك ، وانظر بعد ذلك في بدائع الصنائع لتفهم ما فيه من حقائق الدقائق ، ثم جئ حتى أقول معك بعض أسراره مما يتعلق ببطن القرآن . واعلم أن اليمين واليسار يطلق في عالم الجهات ، ولا جهة في عالم الحق ، ولا زمان ، ولا مكان ، ولا خلاء من الوجود ، ولا ملاء من الجسم الكلي ، وكل شيء يرى بعين الحس في الملك فتبصره ببصيرة العقل في الملكوت قائم به ، وهو موجد حياة كل الأحياء منه ، وقيام كل الأشياء به ، { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، و { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] ويبقى وجهه . وإطلاق اليمين في الحديث كان لأجل اليمن والبركة ، وإظهار سر التوحيد ، وإشارته إلى " كلتا يديه " إشارة إلى : يدي الظاهرة والباطنة ؛ يعني : بيد إرادته الباطنة باطن ملكوت كل شيء ، وبيد قدرته الظاهرة ظهور الملك ، وبعد هذا تحرك سلسلة حد القرآن مما أمرت بستره فأدرج . واعلم أنه على كل شيءٍ قدير كما يقول في كتابه الكريم : { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الملك : 1 ] يقدر على الإبداع ، والإيجاد ، والإبقاء ، والإفناء ، { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] ، ذكر الموت والحياة ؛ لأن القدرة فيهما أظهر ، وقدم الموت على الحياة ؛ لأنه [ سابقتكم ] { أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ } [ البقرة : 28 ] ؛ يعني : كنتم جاهلين فأحياكم بالعلم ، وكنتم في بطون أمهاتكم موتى فأحياكم بنفخ الروح ، وكنتم موتى في القالب فأحياكم بنور الإيمان ، وكنتم موتى في البرزخ فأحياكم يوم القيامة ، وكنتم موتى في النكرة فأحياكم بالمعرفة ، وكنتم موتى من مشاهدة وجه الرب فأحياكم بمشاهدته للابتلاء حتى تتم مظاهر لطفه وقهره ، وحتى يرى { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] في الاختيار الحياتي الذي أعطاه ربكم لكم لتكونوا خلائف الأرض ، أتشتغلون في عالم اختياركم بذكر مولاكم ؟ أم تبتغون هواكم وتغفلون عن ذكر مولاكم ؟ أتتركون الدنيا الفانية للآخرة الباقية ؟ أم تشتغلون بالدنيا لاستيفاء حظوظكم العاجلة الشهوية ؟ أم تشتغلون بتزكية النفس عن الكدورات الحاصلة لها في دار الفناء ؟ أم تتركونها مكدرة مظلمة صاعد عليها كل ساعة دخان الهوى ؟ أتجتهدون في تصفية السر وتحلية الروح بالأخلاق والصفات الحسنة ؟ أم تتركونها ملوثة بقاذورات الأخلاق الشيطانية والصفات البهيمية ؟ أتقبلون على تصقيل القلب ليكون مرآة لوجه الرب وهو المقصود من إيجاد الموجودات ؟ أم تعرضون عنه ليتأثر فيه طبع [ الطغي ] { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } [ الملك : 2 ] ؛ يعني : هو غالب على أمره أن يعذب المقصر في تقويم القالب وتصقيل القلب وإقامة المرآة محاذاة وجه الرب في عالم التوجه ، غفور لمن يقوِّم القالب على وفق ظاهر الشرع بالسياسة ، وتصقيل القلب على قانون حكمة الطريقة بالطهارة ، ويقيم المرآة المقوِّمة المصقلة محاذاة وجه الرب بالطهارة ، والله تعالى أرسل جميع الرسل إلى الخلق ليعلمهم بالسياسة أمر التقويم ، وبالطهارة أمر التصقيل ، وبالعبادة أمر التوجه ؛ لترى في المرآة ذاته وأفعاله وآثاره كما يقول تعالى : " كنت كنزاً مخفياً فأردت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف " . { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ * ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } [ الملك : 2 - 3 ] ؛ أي : سماوات أطوار القلب طبقاً طبقاً في كل واحدة منها حكمة خاصة ، { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } [ الملك : 3 ] ؛ يعني : لا يفوته ، وإضافة الخلق في هذا المقام إلى الرحمن كانت من سر فينبغي ألاَّ يغفل عنه ، وهو أنه بعد استوائه على العرش واستواء الخليقة على عرش القالب الجسماني خلق سماوات القلب والصدر ، والسماء الروحانية ، والأرض القالبية ، { كَانَتَا رَتْقاً } [ الأنبياء : 30 ] من قبل مقتضاهما عند استواء الرحمن على عرش الروح ، واستواء خليقته على عرش القالب ، وفي هذا سر يتعلق بحد القرآن مما ليس هو من نفس المستمعين . { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } [ الملك : 3 ] ؛ يعني : كرر النظر واعتبر بنظر الاعتبار هل ترى في خلقه من نقصان من الشق والصدع أو الخرق ؟ { ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [ الملك : 4 ] كرة في ملكه ، وكرة في ملكوته ، وكرة بعين الحس ، وكرة ببصيرة العقل حتى يقع نظرك في عالم ملكه وملكوته على شيء ، يقول عقلك المضل وقواك الكافرة وهويتك المدعية للإلهية : ينبغي أن يكون هذا على خلاف ما خلفناه وسويناه ، فيا أيها الجاهل الضال لا تتفكر في قبضتك وأنا ملك [ الملوك ] حتى ترى حكمة الحكيم إن لم تكن ممن يتفكر في ملكه العظيم ، وتعلم أن لو يزيد أنملة على الأنامل الخمس كيف يكون قبيحاً ؟ ! بحيث يحكم عقلك على قطعها ، ولو تنقص أنملة من الأنامل كيف تستحي منها وتمد يدك في كمك حتى لا يطلع على نقصانك أحد ؟ ! وإن كانت الأنامل متصلة بعضها ببعض لا يمكن لك القبض والبسط ، وإن كانت الأنامل مستوية لا يتصل بعضها ببعض وقت الضم ، وعجائب القبضة الواحدة التي هي عضو جسماني من أعضائك ، وعروقها ، وأغصانها ، وروابطها الظاهرة ، وأظافرها ، وكيفية تحليل الخلط السوداني من رؤوس الأظافر ينبغي أن تقطع في كل شهر مرتين ، وكيفية عضلاتها وروابطها الباطنة إلى حقيقة صفة القدرة ، واتصال القدرة بالإرادة ، وتعلق الإرادة بالعلم الروحاني ، ثم تعلق العلم بالقلم الذي في قبضة الحق ، واتصال حقيقة القبضة الحقية باليد المذكورة في كلام المجيد وهلم جرا إلى الدقائق الجبروتية المتصلة بحقائق اللاهوتية مما لا يحصى أبد الدهر في ظنك بعجائب ملكه وملكوته ، وجبروته ولاهوته ، ومع هذا تدعي الربوبية الإلهية ، وتعجز عن إدراك سر عضو من أعضائك أيها المعاند الجاهل . { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] ؛ يعني : ينقلب نظرك صاغراً ذليلاً عاجزاً ، وهو كليل منقطع عن النظر على نقصان في ملكه وملكوته ، { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ } [ الملك : 5 ] ؛ يعني : زينا سماء الدنيا بمصابيح خواطر القدر في آفاق عالم الإنسان ، وهو مظهر السر في أنفس عالم الإنسان السرية والروحية والخفية ، والقالب الذي هو عالم الكون ، والفساد مظهر لسماء الدنيا الذي هو ذات البروج ، ولا تغلط بأنا بينا في الواردات أن القلب أعلى من الصدر ، ويشاهد الصدر إلى القلب أقرب ، وتفكر في إحاطة جسمية الصدر بالقلب في عالم الشهادة كما تشاهد إحاطة فلك الثوابت بالأفلاك السبعة ؛ لئلا تغلط ونحن في هذا المقام ندخل في طريق الجسمانيات { وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ } [ الملك : 5 ] ؛ يعني : جعلنا الخواطر السرية والروحية والخفية على سماء الصدر حفظة ؛ ليرجم بها الشياطين إذا أرادوا أن يوسوسوا في الصدر ويسترقوا السمع { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ } [ الملك : 5 ] ؛ يعني : للقوى النفسية التي يمددها بقدر الشيطان التجاوز عن عالمها والصعود إلى سماء الصدر .