Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 52-54)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ } [ الأعراف : 52 ] ؛ يعني : لهؤلاء المنكرين كما جئنا للمؤمنين ، { بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } [ الأعراف : 52 ] ؛ أي : بقرائن مبيناً فيه من العلوم ما يكون ، { هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 52 ] به ويهتدون به ، فاهتدى المؤمنين به إلى الله ، وضل المنكرون والجاحدون به عن الله ، { هَلْ يَنظُرُونَ } [ الأعراف : 53 ] ؛ أي : هل ينتظرون الفريقان { إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } [ الأعراف : 53 ] ؛ أي : ما تؤول إليه عاقبته في شأنهم ، فأما المؤمنين فيكشف عنهم الغطاء ويرش عليهم العطاء ؛ ليجدوا الشفاء من محنة البعاد ، وينالوا الضياء بقرب الوداد ، ويصلوا في الدنيا والعقبى ؛ أي : جميل المراد ، وما لأهل الجحود والإنكار إلى العزة في قسمهم إلا الذلة والافتقار ، وفي الآخرة إلا العذاب الشديد في دركات النار ، { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } [ الأعراف : 53 ] فإذا كشف جلال الغيب وانتفى عن قلوبهم أغطية الدين فلا بكاء لهم ينفع ، ولا دعاء لهم يسمع ، ولا شكوى عنهم ترفع ، ولا شافع لهم يشفع ، ولا دافع عنهم العذاب يدفع ، ولا البلوى من دونهم تقطع ، { قَدْ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } [ الأعراف : 53 ] بإفساد استعداد نيل الكمالات ، وتاهوا في تيه الضلال ، { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ الأعراف : 53 ] من هواجسهم النفسانية ووساوسهم الشيطانية في طلب الدنيا ومتابعة الهوى . ثم أخبر عن عزة ربوبيته وقدرة ألوهيته بقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [ الأعراف : 54 ] ، الإشارة فيها : أن الله تعالى يعرِّف ذاته إلى الخلق بصفاته وهي : الربوبية ، والإلوهية ، والقادرية ، والخالقية ، والمدبرية ، والحكيمية ، والاستوائية ، فقال تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] ، فيشير إلى أن الذي هو ربكم وسيدكم الذي تجب طاعته عليكم لربوبيته هو : الله المستحق للعبادة بالإلوهية ، الذي خلق بالقادرية والخالقية السماوات والأرض بالمدبرية والحكيمية خلقها في ستة أيام ، وإنما حصر في ستة أيام ؛ لأن أنواع المخلوقات ستة وهي : الأول : الأرواح المجردة . والثاني : الملكوتيات ، فمنها : الملائكة ، والجن ، والشياطين ، وملكوت السماوات ، ومنها : العقول المفردات والمركبات . والثالث : النفوس : كنفوس الكواكب ، ونفس الإنسان ، ونفس الحيوان ، ونفس النبات والمعادن . والرابع : الأجرام والبساط العلوية من الأجسام اللطيفة كالعرش ، والكرسي ، والسماوات ، والجنة والنار . والخامس : الأجسام المفردة وهي : العناصر الأربعة . والسادس : الأجسام المركبة الكثيفة من العناصر فتصير عن خلق كل نوع منها بيوم ، وإلاَّ فالأيام الزمانية كونها مستحيل قبل خلق السماوات والأرض ، فلما أتم خلق المكونات من الأنواع الستة استوى على العرش بعد الفراغ من خلقها استواء التصرف في العالم وما فيه التدبير في أموره من العرش إلى تحت الثرى ، وإنما اختص العرش بالاستواء ؛ لأنه مبدأ الأجسام اللطيفة القابل للفيض الرحمانية . واعلم أن الاستواء صفة من صفاته تعالى لا تشبه استواء المخلوقين ، كالعلم صفة من صفاته تعالى لا يشبه علم المخلوقين ؛ إذ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] ، ولو أمعنت النظر في خصوصية خلافتك عن الحق تعالى لعرفت نفسك فعرفت ربك ، وذلك أن الله تعالى لمَّا أراد خلق شخصك من النطفة المودعة في الرحم استعمل روحك بخلافته ؛ ليتصرف في النطفة أيام الحمل فيجعلها عالماً صغيراً مناسباً للعالم الكبير ، فيكون بدنه بمثابة الأرض ، ورأسه بمثابة السماء ، وقلبه بمثابة العرش ، وسره بمثابة الكرسي ، وهذا كله بتدبير الروح وتصرفه خلافة عن ربه ، ثم استوى الروح بعد استواء من الشخص الكامل على عرش القلب استواءاً لا مكانياً لا استواءاً مكانياً ؛ ليتصرف في جميع أجزاء الشخص ويدبر أموره بإفاضة فيضه على القلب ، فإن القلب هو : القابل لفيض الروح ، ثم يفيض على سائر الأعضاء ، كما أن من العرش ينصب الفيض الإلهي إلى سائر المخلوقات ، فالعرش مقسم فيض الحق تعالى إلى المخلوقات كلها ، كما أن القلب مقسم فيض الروح إلى القالب كله ، فإذا تأملت في هذا المثال تأملاً شافياً وجدته في نفي التشبيه عن الصفات المنزهة المقدسة كافياً ، وتحققت حقيقة : " من عرف نفسه فقد عرف ربه " - إن شاء الله تعالى - فيقول تعالى : { يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } [ الأعراف : 54 ] ، يخبر عن تصرفاته في المماليك بالمدبرية عند استوائه على العرش ، وفيه إشارة إلى ليل ظلمات النفس عند استيلاء صفاتها وغلبات هواها على نهار أنوار القلب ، وإلى نهار القلب في غلبات أنواره واستيلاء المحبة عليه . { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [ الأعراف : 54 ] ؛ عنى بالأمر الخطاب بلا واسطة ، كما خاطب النار { يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً } [ الأنبياء : 69 ] بلا واسطة ، فكانت ؛ يعني : هذه العلويات مدبرات السفليات ومؤثرات فيها ؛ لأنها مسخرات بأمرنا بلا واسطة ، وهن واسطة بيننا وبين السفليات كتابة للقدرة وإيصالاً للتصرف ، كما أن يعني حركة القلم بأمر الكاتب بلا واسطة ، والكتابة بواسطة القلم تصدر عن الكاتب ، { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 ] ، فسمي ما خلق بأمره من غير واسطة أمراً ، وما خلق بواسطة خلقاً ، وقال تعالى : { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } ؛ أي : له القدرة والتصرف في العالمين بالربوبية ما خلق بالواسطة وما خلق بغير واسطة .