Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 25-49)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } إلى آخر القصة أي : ولقد أرسلنا رسولنا نوحاً أول المرسلين { إِلَىٰ قَوْمِهِ } يدعوهم إلى الله وينهاهم عن الشرك فقال لهم : { إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : بينت لكم ما أنذرتكم به بيانا زال به الإشكال . { أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ } أي : أخلصوا العبادة لله وحده ، واتركوا كل ما يعبد من دون الله . { إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } إن لم تقوموا بتوحيد الله وتطيعوني . { فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } أي : الأشراف والرؤساء ، رادين لدعوة نوح عليه السلام ، كما جرت العادة لأمثالهم ، أنهم أول من رد دعوة المرسلين . { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } وهذا مانع بزعمهم عن اتباعه ، مع أنه في نفس الأمر هو الصواب الذي لا ينبغي غيره ، لأن البَشَر يتمكن البشر أن يتلقوا عنه ، ويراجعوه في كل أمر ، بخلاف الملائكة . { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } أي : ما نرى اتبعك منا إلا الأراذل والسفلة بزعمهم . وهم في الحقيقة الأشراف وأهل العقول الذين انقادوا للحق ، ولم يكونوا كالأراذل الذين يقال لهم الملأ ، الذين اتبعوا كل شيطان مريد ، واتخذوا آلهة من الحجر والشجر ، يتقربون إليها ويسجدون لها ، فهل ترى أرذل من هؤلاء وأخس ؟ وقولهم : { بَادِيَ ٱلرَّأْيِ } أي : إنما اتبعوك من غير تفكر وروية ، بل بمجرد ما دعوتهم اتبعوك ، يعنون بذلك أنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم ، ولم يعلموا أن الحق المبين تدعو إليه بداهة العقول ، وبمجرد ما يصل إلى أولي الألباب يعرفونه ويتحققونه ، لا كالأمور الخفية التي تحتاج إلى تأمل وفكر طويل . { وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } أي : لستم أفضل منا فننقاد لكم ، { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } وكذبوا في قولهم هذا ، فإنهم رأوا من الآيات التي جعلها الله مؤيدة لنوح ، ما يوجب لهم الجزم التام على صدقه . ولهذا { قَالَ } لهم نوح مجاوباً { يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ } أي : على يقين وجزم ، يعني ، وهو الرسول الكامل القدوة ، الذي ينقاد له أولو الألباب ، ويضمحل في جنب عقله عقول الفحول من الرجال ، وهو الصادق حقاً ، فإذا قال : إني على بينة من ربي ، فحسبك بهذا القول شهادة له وتصديقاً . { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } أي : أوحى إلي وأرسلني ، ومنَّ علي بالهداية ، { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي : خفيت عليكم ، وبها تثاقلتم . { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } أي : أنكرهكم على ما تحققناه ، وشككتم أنتم فيه ؟ { وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } حتى حرصتم على رد ما جئت به ، ليس ذلك ضارنا ، وليس بقادح من يقيننا فيه ، ولا قولكم وافتراؤكم علينا صاداً لنا عما كنا عليه . وإنما غايته أن يكون صادّاً لكم أنتم ، وموجباً لعدم انقيادكم للحق ، الذي تزعمون أنه باطل ، فإذا وصلت الحال إلى هذه الغاية ، فلا نقدر على إكراهكم على ما أمر الله ، ولا إلزامكم ما نفرتم عنه ، ولهذا قال : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } { وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي : على دعوتي إياكم { مَالاً } فستستثقلون المغرم . { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } وكأنهم طلبوا منه طرد المؤمنين الضعفاء ، فقال لهم : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } أي : ما ينبغي لي ولا يليق بي ذلك ، بل أتلقاهم بالرحب والإكرام ، والإعزاز والإعظام { إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ } فمثيبهم على إيمانهم وتقواهم بجنات النعيم . { وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } حيث تأمرونني بطرد أولياء الله وإبعادهم عني وحيث رددتم الحق لأنهم أتباعه ، وحيث استدللتم على بطلان الحق بقولكم إني بشر مثلكم وإنه ليس لنا عليكم من فضل . { وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ } أي : من يمنعني من عذابه ، فإن طردهم موجب للعذاب والنكال الذي لا يمنعه من دون الله مانع . { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ما هو الأنفع لكم والأصلح ، وتدبرون الأمور . { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } أي : غايتي أني رسول الله إليكم ، أبشركم وأنذركم ، وأما ما عدا ذلك فليس بيدي من الأمر شيء ، فليست خزائن الله عندي أدبرها أنا ، وأعطي من أشاء وأحرم من أشاء ، { وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } فأخبركم بسرائركم وبواطنكم { وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } والمعنى : أني لا أدعي رتبة فوق رتبتي ، ولا منزلة سوى المنزلة التي أنزلني الله بها ، ولا أحكم على الناس بظني . { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيۤ أَعْيُنُكُمْ } أي : ضعفاء المؤمنين الذين يحتقرهم الملأ الذين كفروا { لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيۤ أَنْفُسِهِمْ } فإن كانوا صادقين في إيمانهم فلهم الخير الكثير ، وإن كانوا غير ذلك فحسابهم على الله . { إِنِّيۤ إِذاً } أي : إن قلت لكم شيئاً مما تقدم { لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ } وهذا تأييس منه عليه الصلاة والسلام لقومه ، أن ينبذ فقراء المؤمنين أو يمقتهم ، وتقنيع لقومه بالطرق المقنعة للمنصف . فلما رأوه لا ينكف عما كان عليه من دعوتهم ، ولم يدركوا منه مطلوبهم { قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } من العذاب { إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } فما أجهلهم وأضلهم ، حيث قالوا هذه المقالة لنبيهم الناصح . فهلا قالوا إن كانوا صادقين : يا نوح قد نصحتنا وأشفقت علينا ، ودعوتنا إلى أمر لم يتبين لنا فنريد منك أن تبينه لنا لننقاد لك ، وإلا فأنت مشكور في نصحك . لكان هذا الجواب المنصف ، الذي قد دعي إلى أمر خفي عليه ، ولكنهم في قولهم كاذبون ، وعلى نبيهم متجرؤون . ولم يردوا ما قاله بأدنى شبهة ، فضلاً عن أن يردوه بحجة . ولهذا عدلوا - من جهلهم وظلمهم - إلى الاستعجال بالعذاب ، وتعجيز الله ، ولهذا أجابهم نوح عليه السلام بقوله : { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ } أي : إن اقتضت مشيئته وحكمته أن ينزله بكم ، فعل ذلك . { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } لله ، وأنا ليس بيدي من الأمر شيء . { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } أي : إن إرادة الله غالبة ، فإنه إذا أراد أن يغويكم لردكم الحق ، فلو حرصت غاية مجهودي ، ونصحت لكم أتم النصح - وهو قد فعل عليه السلام - فليس ذلك بنافع لكم شيئاً ، { هُوَ رَبُّكُمْ } يفعل بكم ما يشاء ، ويحكم فيكم بما يريد { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم بأعمالكم . { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } هذا الضمير محتمل أن يعود إلى نوح كما كان السياق في قصته مع قومه ، وأن المعنى أن قومه يقولون : افترى على الله كذباً ، وكذب بالوحي الذي يزعم أنه من الله ، وأن الله أمره أن يقول : { قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } أي : كلٌّ عليه وزره { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [ الأنعام : 164 ] . ويحتمل أن يكون عائداً إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وتكون هذه الآية معترضة في أثناء قصة نوح وقومه ، لأنها من الأمور التي لا يعلمها إلا الأنبياء ، فلما شرع الله في قصها على رسوله ، وكانت من جملة الآيات الدالة على صدقه ورسالته ، ذكر تكذيب قومه له مع البيان التام ، فقال : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } أي : هذا القرآن اختلقه محمد من تلقاء نفسه ، أي : فهذا من أعجب الأقوال وأبطلها ، فإنهم يعلمون أنه لم يقرأ ولم يكتب ، ولم يرحل عنهم لدراسة على أهل الكتاب ، فجاء بهذا الكتاب الذي تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله . فإذا زعموا - مع هذا - أنه افتراه ، علم أنهم معاندون ، ولم يبق فائدة في حجاجهم ، بل اللائق في هذه الحال الإعراض عنهم ، ولهذا قال : { قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } أي : ذنبي وكذبي ، { وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } أي : فلم تستلجون في تكذيبي . وقوله : { وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } أي : قد قسوا ، { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي : فلا تحزن ولا تبال بهم وبأفعالهم ، فإن الله قد مقتهم ، وأحق عليهم عذابه الذي لا يرد . { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } أي : بحفظنا ، ومرأى منا ، وعلى مرضاتنا ، { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ } أي : لا تراجعني في إهلاكهم ، { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } أي : قد حق عليهم القول ، ونفذ فيهم القدر . فامتثل أمر ربه ، وجعل يصنع الفلك { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ } ورأوا ما يصنع { سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا } الآن { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } نحن أم أنتم . وقد علموا ذلك حين حل بهم العقاب . { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } أي : قدرنا بوقت نزول العذاب بهم { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } أي : أنزل الله السماء بالماء بالمنهمر ، وفجر الأرض كلها عيوناً حتى التنانير التي هي محل النار في العادة ، وأبعد ما يكون عن الماء ، تفجرت ، فالتقى الماء على أمر قد قدر . { قُلْنَا } لنوح : { ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } أي : من كل صنف من أصناف المخلوقات ، ذكر وأنثى ، لتبقى مادة سائر الأجناس ، وأما بقية الأصناف الزائدة عن الزوجين ، فلأن السفينة لا تطيق حملها { وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } ممن كان كافراً ، كابنه الذي غرق . { وَمَنْ آمَنَ } { وَ } الحال أنه { مَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } . { وَقَالَ } نوح لمن أمره الله أن يحملهم : { ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا } أي : تجري على اسم الله ، وترسو على اسم الله ، وتجري بتسخيره وأمره . { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } حيث غفر لنا ورحمنا ، ونجانا من القوم الظالمين . ثم وصف جريانها كأنا نشاهدها فقال : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ } أي : بنوح ومن ركب معه { فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ } والله حافظها وحافظ أهلها { وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ } لما ركب ، ليركب معه { وَكَانَ } ابنه ، { فِي مَعْزِلٍ } عنهم حين ركبوا ، أي : مبتعداً وأراد منه ، أن يقرب ليركب ، فقال له : { يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ } فيصيبك ما يصيبهم . فـ { قَالَ } ابنه ، مكذباً لأبيه أنه لا ينجو إلا من ركب معه السفينة . { سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ } أي : سأرتقي جبلاً ، أمتنع به من الماء ، فـ { قَالَ } نوح : { لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } فلا يعصم أحداً ، جبل ولا غيره ، ولو تسبب بغاية ما يمكنه من الأسباب لما نجا إن لم ينجه الله . { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ } الابن { مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } . فلما أغرقهم الله ونجى نوحاً ومن معه { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ } الذي خرج منك ، والذي نزل إليك ، أي : ابلعي الماء الذي على وجهك { وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي } فامتثلتا لأمر الله ، فابتلعت الأرض ماءها ، وأقلعت السماء ، فنضب الماء من الأرض ، { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } بهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين . { وَٱسْتَوَتْ } السفينة { عَلَى ٱلْجُودِيِّ } أي : أرست على ذلك الجبل المعروف في أرض الموصل . { وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أي : أتبعوا بعد هلاكهم لعنة وبعداً وسحقاً لا يزال معهم . { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ } أي : وقد قلت لي : فـ { ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } ولن تخلف ما وعدتني به . لعله عليه الصلاة والسلام حملته الشفقة ، وأن الله وعده بنجاة أهله ، ظن أن الوعد لعمومهم ، من آمن ومن لم يؤمن ، فلذلك دعا ربه بذلك الدعاء ، ومع هذا ففوض الأمر لحكمة الله البالغة . فـ { قَالَ } الله له : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } الذين وعدتك بإنجائهم { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } أي : هذا الدعاء الذي دعوت به ، لنجاة كافر لا يؤمن بالله ولا رسوله . { فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي : ما لا تعلم عاقبته ومآله ، وهل يكون خيراً أو غير خير . { إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } أي : أني أعظك وعظاً تكون به من الكاملين ، وتنجو به من صفات الجاهلين . فحينئذ ندم نوح عليه السلام ندامة شديدة على ما صدر منه ، و { قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيۤ أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } . فبالمغفرة والرحمة ينجو العبد من أن يكون من الخاسرين ، ودلّ هذا على أن نوحاً عليه السلام لم يكن عنده علم بأن سؤاله لربه في نجاة ابنه محرم ، داخل في قوله { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } بل تعارض عنده الأمران ، وظن دخوله في قوله : { وَأَهْلَكَ } . وبعد ذلك تبين له أنه داخل في المنهي عن الدعاء لهم ، والمراجعة فيهم . { قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } من الآدميين وغيرهم من الأزواج التي حملها معه ، فبارك الله في الجميع ، حتى ملأوا أقطار الأرض ونواحيها . { وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ } في الدنيا { ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : هذا الإنجاء ليس بمانع لنا من أن من كفر بعد ذلك أحللنا به العقاب ، وإن متعوا قليلاً ، فسيؤخذون بعد ذلك . قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بعد ما قص عليه هذه القصة المبسوطة التي لا يعلمها إلا من منَّ عليه برسالته . { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا } فيقولوا : إنه كان يعلمها . فاحمد الله واشكره ، واصبر على ما أنت عليه ، من الدين القويم ، والصراط المستقيم والدعوة إلى الله { إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } الذين يتقون الشرك وسائر المعاصي ، فستكون لك العاقبة على قومك ، كما كانت لنوح على قومه .