Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 3-9)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه السورة تسمى سورة النِعَم ، فإن الله ذكر في أولها أصول النعم وقواعدها ، وفي آخرها متمماتها ومكملاتها ، فأخبر أنه خلق السماوات والأرض بالحق ، ليستدل بها العباد على عظمة خالقهما ، وما له من نعوت الكمال ، ويعلموا أنه خلقهما مسكناً لعباده الذين يعبدونه ، بما يأمرهم به في الشرائع التي أنزلها على ألسنة رسله ، ولهذا نزه نفسه عن شرك المشركين به فقال : { تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : تنزه وتعاظم عن شركهم فإنه الإله حقاً ، الذي لا تنبغي العبادة ، والحب والذل إلا له تعالى ، ولما ذكر خلق السماوات [ والأرض ] ، ذكر خلق ما فيهما . وبدأ بأشرف ذلك وهو الإنسان فقال : { خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } لم يزل يدبرها ، ويرقيها وينميها ، حتى صارت بشراً تاماً كامل الأعضاء الظاهرة والباطنة ، قد غمره بنعمه الغزيرة ، حتى إذا استتم فخر بنفسه وأعجب بها { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } يحتمل أن المراد : فإذا هو خصيم لربه ، يكفر به ، ويجادل رسله ، ويكذب بآياته . ونسي خلقه الأول ، وما أنعم الله عليه به ، من النعم ، فاستعان بها على معاصيه ، ويحتمل أن المعنى : أن الله أنشأ الآدمي من نطفة ، ثم لم يزل ينقله من طور إلى طور ، حتى صار عاقلاً متكلماً ، ذا ذهن ورأي : يخاصم ويجادل ، فليشكر العبد ربه الذي أوصله إلى هذه الحال ، التي ليس في إمكانه القدرة على شيء منها . { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } أي : لأجلكم ، ولأجل منافعكم ومصالحكم ، من جملة منافعها العظيمة أن لكم { فِيهَا دِفْءٌ } مما تتخذون من أصوافها وأوبارها ، وأشعارها ، وجلودها ، من الثياب ، والفرش ، والبيوت . { وَ } لكم فيها { مَنَافِعُ } غير ذلك { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } أي : في وقت راحتها وسكونها ، ووقت حركتها وسرحها ، وذلك أن جمالها لا يعود إليها منه شيء ، فإنكم أنتم الذين تتجملون بها ، كما تتجملون بثيابكم وأولادكم وأموالكم ، وتعجبون بذلك ، { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } من الأحمال الثقيلة ، بل وتحملكم أنتم { إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ } ولكن الله ذللها لكم . فمنها ما تركبونه ، ومنها ما تحملون عليه ما تشاؤون من الأثقال إلى البلدان البعيدة والأقطار الشاسعة ، { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } إذ سخر لكم ما تضطرون إليه وتحتاجونه ، فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه ، وعظيم سلطانه ، وسعة جوده وبره . { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ } سخرناها لكم { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } أي : تارة تستعملونها للضرورة في الركوب ، وتارة لأجل الجمال والزينة ، ولم يذكر الأكل ، لأن البغال والحمر محرم أكلها ، والخيل لا تستعمل - في الغالب - للأكل ، بل ينهى عن ذبحها لأجل الأكل ، خوفاً من انقطاعها ، وإلا فقد ثبت في الصحيحين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في لحوم الخيل . { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } مما يكون بعد نزول القرآن من الأشياء ، التي يركبها الخلق في البر والبحر والجو ، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم ، فإنه لم يذكرها بأعيانها ، لأن الله تعالى لا يذكر في كتابه إلا ما يعرفه العباد ، أو يعرفون نظيره ، وأما ما ليس له نظير ، فإنه لو ذكر لم يعرفوه ، ولم يفهموا المراد منه ، فيذكر أصلاً جامعاً يدخل فيه ما يعلمون وما لا يعلمون ، كما ذكر نعيم الجنة ، وسمى منه ما نعلم ونشاهد نظيره ، كالنخل والأعناب والرمان ، وأجمل ما لا نعرف له نظيراً في قوله : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [ الرحمن : 52 ] فكذلك هنا ، ذكر ما نعرفه من المراكب ، كالخيل ، والبغال ، والحمير ، والإبل ، والسفن ، وأجمل الباقي في قوله : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ولما ذكر تعالى الطريق الحسي ، وأن الله قد جعل للعباد ما يقطعونه به من الإبل وغيرها ، ذكر الطريق المعنوي الموصل إليه فقال : { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } أي : الصراط المستقيم ، الذي هو أقرب الطرق وأخصرها ، موصل إلى الله . وأما الطريق الجائر في عقائده وأعماله ، وهو كل ما خالف الصراط المستقيم ، فهو قاطع عن الله ، موصل إلى دار الشقاء ، فسلك المهتدون الصراط المستقيم بإذن ربهم ، وضل الغاوون عنه ، وسلكوا الطرق الجائرة ، { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } ولكنه هدى بعضاً كرماً وفضلاً ، ولم يهد آخرين ، حكمة منه وعدلاً .