Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 149-150)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أي : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } في أسفارك وغيرها ، وهذا للعموم { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } أي : جهته . ثم خاطب الأمة عموماً فقال : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وقال : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } أكده بـ " إن " واللام ، لئلا يقع لأحد فيه أدنى شبهة ، ولئلا يظن أنه على سبيل التشهي لا الامتثال . { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم ، فتأدبوا معه ، وراقبوه بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، فإن أعمالكم غير مغفول عنها ، بل مجازون عليها أتم الجزاء ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . وقال هنا : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي : شرعنا لكم استقبال الكعبة المشرفة ، لينقطع عنكم احتجاج الناس من أهل الكتاب والمشركين ، فإنه لو بقي مستقبلاً بيت المقدس لتوجهت عليه الحجة ، فإن أهل الكتاب يجدون في كتابهم أن قبلته المستقرة ، هي الكعبة البيت الحرام ، والمشركون يرون أن من مفاخرهم هذا البيت العظيم وأنه من ملة إبراهيم وأنه إذا لم يستقبله محمد صلى الله عليه وسلم ، توجهت نحوه حججهم ، وقالوا : كيف يدعي أنه على ملة إبراهيم ، وهو من ذريته ، وقد ترك استقبال قبلته ؟ فباستقبال الكعبة قامت الحجة على أهل الكتاب والمشركين ، وانقطعت حججهم عليه . إلا من ظلم منهم ، أي : من احتج منهم بحجة هو ظالم فيها ، وليس لها مستند إلا اتباع الهوى والظلم ، فهذا لا سبيل إلى إقناعه والاحتجاج عليه ، وكذلك لا معنى لجعل الشبهة التي يوردونها على سبيل الاحتجاج محلاًّ يؤبه لها ، ولا يلقى لها بال ، فلهذا قال تعالى : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } لأن حجتهم باطلة ، والباطل كاسمه مخذول ، مخذول صاحبه ، وهذا بخلاف صاحب الحق ، فإن للحق صولة وعزاً ، يوجب خشية من هو معه ، وأمر تعالى بخشيته التي هي أصل كل خير ، فمن لم يخش الله لم ينكف عن معصيته ، ولم يمتثل أمره . وكان صرف المسلمين إلى الكعبة مما حصلت فيه فتنة كبيرة ، أشاعها أهل الكتاب والمنافقون والمشركون ، وأكثروا فيها من الكلام والشبه ، فلهذا بسطها الله تعالى وبينها أكمل بيان ، وأكدها بأنواع من التأكيدات التي تضمنتها هذه الآيات . منها : الأمر بها ثلاث مرات مع كفاية المرة الواحدة ، ومنها : أن المعهود ، أن الأمر إما أن يكون للرسول ، فتدخل فيه الأمة تبعاً ، أو للأمة عموماً ، وفي هذه الآية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ } والأمة عموما في قوله : { فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } . ومنها : أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة التي أوردها أهل العناد ، وأبطلها شبهة شبهة كما تقدم توضيحها ، ومنها : أنه قطع الأطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب ، ومنها قوله : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف ، ولكن مع هذا قال : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } . ومنها : أنه أخبر - وهو العالم بالخفيات - أن أهل الكتاب متقرر عندهم صحة هذا الأمر ، ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم . ولما كان توليته لنا إلى استقبال القبلة نعمة عظيمة ، وكان لطفه بهذه الأمة ورحمته لم يزل يتزايد ، وكلما شرع لهم شريعة فهي نعمة عظيمة ، قال : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } . فأصل النعمة الهداية لدينه ، بإرسال رسوله وإنزال كتابه ، ثم بعد ذلك ، النعم المتممات لهذا الأصل ، لا تعد كثرة ولا تحصر ، منذ بعث الله رسوله إلى أن قرب رحيله من الدنيا ، وقد أعطاه الله من الأحوال والنعم ، وأعطى أمته ، ما أتم به نعمته عليه وعليهم ، وأنزل الله عليه : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } [ المائدة : 3 ] . فلله الحمد على فضله ، الذي لا نبلغ له عداً ، فضلاً عن القيام بشكره ، { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : تعلمون الحق وتعملون به ، فالله تبارك وتعالى - من رحمته - بالعباد ، قد يسر لهم أسباب الهداية غاية التيسير ، ونبههم على سلوك طرقها ، وبينها لهم أتم تبيين ، حتى إن من جملة ذلك أنه يقيض للحق المعاندين له فيجادلون فيه ، فيتضح بذلك الحق ، وتظهر آياته وأعلامه ، ويتضح بطلان الباطل ، وأنه لا حقيقة له ، ولولا قيامه في مقابلة الحق ، لربما لم يتبين حاله لأكثر الخلق ، وبضدها تتبين الأشياء ، فلولا الليل ما عرف فضل النهار ، ولولا القبيح ما عرف فضل الحسن ، ولولا الظلمة ما عرف منفعة النور ، ولولا الباطل ما اتضح الحق اتضاحاً ظاهراً ، فلله الحمد على ذلك .