Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 164-164)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة آيات أي : أدلة على وحدانية الباري وإلهيته ، وعظيم سلطانه ورحمته ، وسائر صفاته ، ولكنها { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له ، فعلى حسب ما منّ الله على عبده من العقل ، ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبره ، ففي { خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } في ارتفاعها واتساعها ، وإحكامها وإتقانها ، وما جعل الله فيها من الشمس والقمر والنجوم ، وتنظيمها لمصالح العباد . وفي خلق { ٱلأَرْضِ } مهاداً للخلق ، يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها ، والاعتبار . ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير ، وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها ، وحكمته التي بها أتقنها وأحسنها ونظمها ، وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع ، من منافع الخلق ومصالحهم ، وضروراتهم وحاجاتهم . وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله ، واستحقاقه أن يفرد بالعبادة ، لانفراده بالخلق والتدبير ، والقيام بشئون عباده { وَ } في { ٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } وهو تعاقبهما على الدوام ، إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر ، وفي اختلافهما في الحر والبرد والتوسط ، وفي الطول والقصر والتوسط ، وما ينشأ عن ذلك من الفصول التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم ، وجميع ما على وجه الأرض من أشجار ونوابت كل ذلك بانتظام وتدبير ، وتسخير تَنبَهِرُ له العقول ، وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحولُ ، ما يدل ذلك على قدرة مصرّفها وعلمه وحكمته ورحمته الواسعة ولطفه الشامل ، وتصريفه وتدبيره الذي تفرد به ، وعظمته وعظمة ملكه وسلطانه ، مما يوجب أن يؤلّه ويُعبد ، ويفرد بالمحبة والتعظيم ، والخوف والرجاء ، وبذل الجهد في محابه ومراضيه . { وَ } في { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ } وهي السفن والمراكب ونحوها ، مما ألهم الله عباده صنعتها ، وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها . ثم سخر لها هذا البحر العظيم ، والرياح التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال ، والبضائع التي هي من منافع الناس ، وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم . فمن الذي ألهمهم صنعتها وأقدرهم عليها ، وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها ؟ أم من الذي سخر لها البحر تجري فيه بإذنه وتسخيره والرياح ؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية النار والمعادن المعينة على حملها وحمل ما فيها من الأموال ؟ فهل هذه الأمور ، حصلت اتفاقاً ، أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز ، الذي خرج من بطن أمه لا علم له ولا قدرة ، ثم خلق له ربه القدرة وعلّمه ما يشاء تعليمه ، أم المسخّر لذلك ربٌّ واحد حكيم عليم ، لا يعجزه شيء ، ولا يمتنع عليه شيء ؟ بل الأشياء قد دانت لربوبيته ، واستكانت لعظمته ، وخضعت لجبروته . وغاية العبد الضعيف ، أن جعله الله جزءاً من أجزاء الأسباب ، التي بها وجدت هذه الأمور العظام ، فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه ، وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له ، والخوف والرجاء ، وجميع الطاعة ، والذل والتعظيم . { وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ } وهو المطر النازل من السحاب . { فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فأظهرت من أنواع الأقوات وأصناف النبات ، ما هو من ضرورات الخلائق التي لا يعيشون بدونها . أليس ذلك دليلاً على قدرة من أنزله وأخرج به ما أخرج ، ورحمته ولطفه بعباده ، وقيامه بمصالحهم ، وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه ؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم ؟ أليس ذلك دليلاً على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم ؟ { وَبَثَّ فِيهَا } أي : في الأرض { مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } أي : نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة ، ما هو دليل على قدرته وعظمته ، ووحدانيته وسلطانه العظيم ، وسخَّرها للناس ، ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع . فمنها : ما يأكلون من لحمه ، ويشربون من درّه ، ومنها : ما يركبون ، ومنها : ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم ، ومنها : ما يعتبر به ، ومع أنه بث فيها من كل دابة ، فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم ، المتكفل بأقواتهم ، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها . وفي { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ } باردة وحارة ، وجنوباً وشمالاً وشرقاً ودبوراً ، وبين ذلك ، وتارة تثير السحاب ، وتارة تؤلف بينه ، وتارة تلقحه ، وتارة تدره ، وتارة تمزقه ، وتزيل ضرره ، وتارة تكون رحمة ، وتارة ترسل بالعذاب . فمن الذي صرفها هذا التصريف ، وأودع فيها من منافع العباد ما لا يستغنون عنه ؟ وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات ، وتصلح الأبدان والأشجار ، والحبوب والنوابت ، إلا العزيز الحكيم الرحيم ، اللطيف بعباده ، المستحق لكل ذل وخضوع ومحبة وإنابة وعبادة ؟ وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير ، فيسوقه الله إلى حيث شاء ، فيحيي به البلاد والعباد ، ويروي التلول والوهاد ، وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه ، فإذا كان يضرهم كثرته أمسكه عنهم ، فينزله رحمة ولطفاً ، ويصرفه عناية وعطفاً ، فما أعظم سلطانه ، وأغزر إحسانه ، وألطف امتنانه ! ! أليس من القبيح بالعباد أن يتمتعوا برزقه ، ويعيشوا ببره ، وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه ؟ أليس ذلك دليلا على حلمه وصبره وعفوه وصفحه ، وعميم لطفه ؟ فله الحمد أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً . والحاصل أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات ، وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات ، وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة ، علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق ، وأنها صحائف آيات ، وكتب دلالات ، على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته ، وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر ، وأنها مسخرات ، ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها . فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون ، وإليه صامدون ، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات ، فلا إله إلا الله ، ولا رب سواه .