Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 178-179)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يمتن تعالى على عباده المؤمنين ، بأنه فرض عليهم { ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } أي : المساواة فيه ، وأن يقتل القاتل على الصفة ، التي قتل عليها المقتول ، إقامة للعدل والقسط بين العباد . وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين ، فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم ، حتى أولياء القاتل ، حتى القاتل بنفسه ، إعانة ولي المقتول إذا طلب القصاص ، وتمكينه من القاتل ، وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد ويمنعوا الولي من الاقتصاص ، كما عليه عادة الجاهلية ومن أشبههم من إيواء المحدثين . ثم بيَّن تفصيل ذلك ، فقال : { ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ } يدخل بمنطوقها الذكر بالذكر ، { وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ } والأنثى بالذكر ، والذكر بالأنثى ، فيكون منطوقها مقدماً على مفهوم قوله : " الأنثى بالأنثى " مع دلالة السنة ، على أن الذكر يقتل بالأنثى ، وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا ، فلا يقتلان بالولد ، لورود السنة بذلك ، مع أن في قوله : { ٱلْقِصَاصِ } ما يدل على أنه ليس من العدل أن يقتل الوالد بولده ، ولأن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة ، ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله ، أو أذية شديدة جداً من الولد له . وخرج من العموم أيضاً الكافر بالسنة ، مع أن الآية في خطاب المؤمنين خاصة . وأيضاً فليس من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه ، والعبد بالعبد ، ذكراً كان أو أنثى ، تساوت قيمهما أو اختلفت ، ودلَّ بمفهومها على أن الحر لا يقتل بالعبد ، لكونه غير مساوٍ له ، والأنثى بالأنثى ، أخذ بمفهومها بعض أهل العلم ، فلم يجز قتل الرجل بالمرأة ، وتقدم وجه ذلك . وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل ، وأن الدية بدل عنه ، فلهذا قال : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } أي : عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية ، أو عفا بعض الأولياء ، فإنه يسقط القصاص وتجب الدية ، وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي . فإذا عفا عنه وجب على الولي ، [ أي : ولي المقتول ] أن يتبع القاتل { بِٱلْمَعْرُوفِ } من غير أن يشق عليه ، ولا يحمله ما لا يطيق ، بل يحسن الاقتضاء والطلب ، ولا يحرجه . وعلى القاتل { وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } من غير مطل ولا نقص ولا إساءة فعلية أو قولية ، فهل جزاء الإحسان إليه بالعفو إلا الإحسان بحسن القضاء ، وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان ، مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف ، ومن عليه الحق بالأداء بإحسان . وفي قوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } ترقيق وحث على العفو إلى الدية ، وأحسن من ذلك العفو مجاناً . وفي قوله : { أَخِيهِ } دليل على أن القاتل لا يكفر ، لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان ، فلم يخرج بالقتل منها ، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر ، لا يكفر بها فاعلها ، وإنما ينقص بذلك إيمانه . وإذا عفا أولياء المقتول ، أو عفا بعضهم ، احتقن دم القاتل ، وصار معصوماً منهم ومن غيرهم ، ولهذا قال : { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ } أي : بعد العفو { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الآخرة ، وأما قتله وعدمه فيؤخذ مما تقدم ، لأنه قتل مكافئاً له ، فيجب قتله بذلك . وأما من فسر العذاب الأليم بالقتل ، فإن الآية تدل على أنه يتعين قتله ، ولا يجوز العفو عنه ، وبذلك قال بعض العلماء والصحيح الأول ، لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره . ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } أي : تنحقن بذلك الدماء ، وتنقمع به الأشقياء ، لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل ، لا يكاد يصدر منه القتل ، وإذا رؤي القاتل مقتولا انذعر بذلك غيره وانزجر ، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل ، لم يحصل انكفاف الشر الذي يحصل بالقتل ، وهكذا سائر الحدود الشرعية ، فيها من النكاية والانزجار ما يدل على حكمة الحكيم الغفار ، ونكَّر " الحياة " لإفادة التعظيم والتكثير . ولما كان هذا الحكم لا يعرف حقيقته ، إلا أهل العقول الكاملة ، والألباب الثقيلة ، خصهم بالخطاب دون غيرهم ، وهذا يدل على أن الله تعالى يحب من عباده أن يعملوا أفكارهم وعقولهم ، في تدبر ما في أحكامه من الحكم ، والمصالح الدالة على كماله ، وكمال حكمته وحمده ، وعدله ورحمته الواسعة ، وأن من كان بهذه المثابة فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب ، وناداهم رب الأرباب ، وكفى بذلك فضلاً وشرفاً لقوم يعقلون . وقوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة ، أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله ، ويعظم معاصيه فيتركها ، فيستحق بذلك أن يكون من المتقين .