Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 56-73)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يٰمُوسَىٰ * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ * قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ } . يخبر تعالى ، أنه أرى فرعون من الآيات والعبر والقواطع ، جميع أنواعها العيانية ، والأفقية والنفسية ، فما استقام ولا ارعوى ، وإنما كذب وتولى ، كذب الخبر ، وتولى عن الأمر والنهي ، وجعل الحق باطلاً ، والباطل حقاً ، وجادل بالباطل ليضل الناس ، فقال : { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ } زعم أن هذه الآيات التي أراه إياها موسى ، سحر وتمويه ، المقصود منها إخراجهم من أرضهم ، والاستيلاء عليها ، ليكون كلامه مؤثراً في قلوب قومه ، فإن الطباع تميل إلى أوطانها ، ويصعب عليها الخروج منها ومفارقتها . فأخبرهم أن موسى هذا قصده ، ليبغضوه ، ويسعوا في محاربته ، فلنأتينك بسحر مثل سحرك فأمهلنا ، واجعل لنا { مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى } أي : مستو علمنا وعلمك به ، أو مكاناً مستوياً معتدلاً ليتمكن من رؤية ما فيه . فقال موسى : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ } وهو عيدهم ، الذي يتفرغون فيه ويقطعون شواغلهم ، { وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى } أي : يجمعون كلهم في وقت الضحى ، وإنما سأل موسى ذلك ، لأن يوم الزينة ووقت الضحى فيه يحصل فيه من كثرة الاجتماع ، ورؤية الأشياء على حقائقها ، ما لا يحصل في غيره ، { فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي : جميع ما يقدر عليه ، مما يكيد به موسى ، فأرسل في مدائنه من يحشر السحرة الماهرين في سحرهم ، وكان السحر إذ ذاك متوفراً ، وعلمه علماً مرغوباً فيه ، فجمع خلقاً كثيراً من السحرة ، ثم أتى كل منهما للموعد ، واجتمع الناس للموعد . فكان الجمع حافلاً ، حضره الرجال والنساء ، والملأ ، والأشراف ، والعوام ، والصغار ، والكبار ، وحضوا الناس على الاجتماع ، وقالوا للناس : { هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ ٱلْغَالِبِينَ } [ الشعراء : 39 - 40 ] فحين اجتمعوا من جميع البلدان ، وعظهم موسى عليه السلام ، وأقام عليهم الحجة ، وقال لهم : { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } أي : لا تنصروا ما أنتم عليه من الباطل بسحركم وتغالبون الحق ، وتفترون على الله الكذب ، فيستأصلكم بعذاب من عنده ، ويخيب سعيكم وافتراؤكم ، فلا تدركون ما تطلبون من النصر والجاه عند فرعون ومَلئِه ، ولا تسلمون من عذاب الله ، وكلام الحق لا بد أن يؤثر في القلوب ، لا جرم ارتفع الخصام والنزاع بين السحرة لما سمعوا كلام موسى ، وارتبكوا ، ولعل من جملة نزاعهم ، الاشتباه في موسى ، هل هو على الحق أم لا ؟ ولكن هم إلى الآن ، ما تم أمرهم ، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] فحينئذ أسروا فيما بينهم النجوى ، وأنهم يتفقون على مقالة واحدة ، لينجحوا في مقالهم وفعالهم ، وليتمسك الناس بدينهم ، والنجوى التي أسروها فسرها بقوله : { قَالُوۤاْ إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا } كمقالة فرعون السابقة ، فإما أن يكون ذلك توافقاً من فرعون والسحرة على هذه المقالة من غير قصد ، وإما أن يكون تلقيناً منه لهم مقالته ، التي صمم عليها وأظهرها للناس ، وزادوا على قول فرعون أن قالوا : { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ } أي : طريقة السحر حسدكم عليها ، وأراد أن يظهر عليكم ، ليكون له الفخر والصيت والشهرة ، ويكون هو المقصود بهذا العلم ، الذي أشغلتم زمانكم فيه ، ويذهب عنكم ما كنتم تأكلون بسببه ، وما يتبع ذلك من الرياسة ، وهذا حض من بعضهم على بعض على الاجتهاد في مغالبته ، ولهذا قالوا : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } أي : أظهروه دفعة واحدة متظاهرين متساعدين فيه ، متناصرين ، متفقاً رأيكم وكلمتكم ، { ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّاً } ليكون أمكن لعملكم ، وأهيب لكم في القلوب ، ولئلا يترك بعضكم بعض مقدوره من العمل ، واعلموا أن من أفلح اليوم ونجح وغلب غيره ، فإنه المفلح الفائز ، فهذا يوم له ما بعده من الأيام ، فلله درُّهم ما أصلبهم في باطلهم ، وأشدهم فيه ، حيث أتوا بكل سبب ووسيلة وممكن ، ومكيدة يكيدون بها الحق ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، ويظهر الحق على الباطل ، فلما تمت مكيدتهم ، وانحصر مقصدهم ، ولم يبق إلا العمل { قَالُواْ يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ } عصاك { وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ } خيروه ، موهمين أنهم على جزم من ظهورهم عليه بأي حالة كانت ، فقال لهم موسى : { بَلْ أَلْقُواْ } فألقوا حبالهم وعصيهم ، { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ } أي : إلى موسى { مِن سِحْرِهِمْ } البليغ { أَنَّهَا تَسْعَىٰ } أي : أنها حياتٌ تسعى فلما خيّل إلى موسى ذلك . { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ } كما هو مقتضى الطبيعة البشرية ، وإلا فهو جازم بوعد الله ونصره ، { قُلْنَا } له تثبيتا وتطميناً : { لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ } عليهم ، أي : ستعلو عليهم وتقهرهم ، ويذلوا لك ويخضعوا . { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } أي : عصاك { تَلْقَفْ مَا صَنَعُوۤاْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ } أي : كيدهم ومكرهم ، ليس بمثمر لهم ولا ناجح ، فإنه من كيد السحرة ، الذين يموهون على الناس ، ويلبسون الباطل ، ويخيلون أنهم على الحق ، فألقى موسى عصاه ، فتلقفت ما صنعوا كله وأكلته ، والناس ينظرون لذلك الصنيع ، فعلم السحرة علماً يقيناً أن هذا ليس بسحر ، وأنه من الله ، فبادروا للإيمان . { فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } [ الشعراء : 46 - 48 ] فوقع الحق وظهر وسطع ، وبطل السحر والمكر والكيد ، في ذلك المجمع العظيم . فصارت بينة ورحمة للمؤمنين ، وحجة على المعاندين فـ { قَالَ } فرعون للسحرة : { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } أي : كيف أقدمتم على الإيمان من دون مراجعة مني ولا إذن ؟ استغرب ذلك منهم ، لأدبهم معه ، وذلهم ، وانقيادهم له في كل أمر من أمورهم ، وجعل هذا من ذاك . ثم استلج فرعون في كفره وطغيانه بعد هذا البرهان ، واستخف عقول قومه ، وأظهر لهم أن هذه الغلبة من موسى للسحرة ليس لأن الذي معه الحق ، بل لأنه تمالأ هو والسحرة ، ومكروا ، ودبروا أن يخرجوا فرعون وقومه من بلادهم ، فقبل قومه هذا المكر منه ، وظنوه صدقاً { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [ الزخرف : 54 ] مع أن هذه المقالة التي قالها ، لا تدخل عقل من له أدنى مسكة من عقل ومعرفة بالواقع ، فإن موسى أتى من مدين وحيداً ، وحين أتى لم يجتمع بأحد من السحرة ولا غيرهم ، بل بادر إلى دعوة فرعون وقومه ، وأراهم الآيات ، فأراد فرعون أن يعارض ما جاء به موسى فسعى ما أمكنه ، وأرسل في مدائنه من يجمع له كل ساحر عليم . فجاؤوا إليه ووعدهم الأجر والمنزلة عند الغلبة ، وهم حرصوا غاية الحرص ، وكادوا أشد الكيد ، على غلبتهم لموسى ، وكان منهم ما كان ، فهل يمكن أن يتصور مع هذا أن يكونوا دبروا هم وموسى واتفقوا على ما صدر ؟ هذا من أمحل المحال ، ثم توعد فرعون السحرة فقال { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } كما يفعل بالمحارب الساعي بالفساد ، يقطع يده اليمنى ، ورجله اليسرى ، { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } أي : لأجل أن تشتهروا وتختزوا ، { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ } يعني بزعمه هو أو الله ، وأنه أشد عذاباً من الله وأبقى ، قلباً للحقائق ، وترهيباً لمن لا عقل له . ولهذا لما عرف السحرة الحق ، ورزقهم الله من العقل ما يدركون به الحقائق ، أجابوه بقولهم : { لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ } أي : لن نختارك وما وعدتنا به من الأجر والتقريب ، على ما أرانا الله من الآيات البينات الدالات على أن الله هو الرب المعبود وحده ، المعظم المبجل وحده ، وأن ما سواه باطل ، ونؤثرك على الذي فطرنا وخلقنا ، هذا لا يكون { فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } مما أوعدتنا به من القطع ، والصلب ، والعذاب . { إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ } أي : إنما توعدنا به غاية ما يكون في هذه الحياة الدنيا ، ينقضي ويزول ولا يضرنا ، بخلاف عذاب الله ، لمن استمر على كفره ، فإنه دائم عظيم . وهذا كأنه جواب منهم لقوله : { لنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ } وفي هذا الكلام ، من السحرة ، دليل على أنه ينبغي للعاقل ، أن يوازن بين لذات الدنيا ، ولذات الآخرة ، وبين عذاب الدنيا ، وعذاب الآخرة . { إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا } أي كفرنا ومعاصينا ، فإن الإيمان مكفر للسيئات ، والتوبة تَجبُّ ما قبلها ، وقولهم ، { وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسِّحْرِ } الذي عارضنا به الحق ، هذا دليل على أنهم غير مختارين في عملهم المتقدم ، وإنما أكرههم فرعون إكراهاً . والظاهر - والله أعلم - أن موسى لما وعظهم كما تقدم في قوله : { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } أثر معهم ، ووقع منهم موقعاً كبيراً ، ولهذا تنازعوا بعد هذا الكلام والموعظة ، ثم إن فرعون ألزمهم ذلك ، وأكرههم على المكر الذي أجروه ، ولهذا تكلموا بكلامه السابق قبل إتيانهم ، حيث قالوا : { إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا } فجروا على ما سَنَّهُ لهم ، وأكرههم عليه ، ولعل هذه النكتة التي قامت بقلوبهم من كراهتهم لمعارضة الحق بالباطل وفعلهم ، ما فعلوا على وجه الإغماض ، هي التي أثرت معهم ، ورحمهم الله بسببها ، ووفقهم للإيمان والتوبة ، { وَٱللَّهُ خَيْرٌ } مما وعدتنا من الأجر والمنزلة والجاه ، وأبقى ثواباً وإحساناً لا ما يقول فرعون : { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ } يريد أنه أشد عذاباً وأبقى وجميع ما أتى من قصص موسى مع فرعون ، يذكر الله فيه إذا أتى على قصة السحرة ، أن فرعون توعدهم بالقطع والصلب ، ولم يذكر أنه فعل ذلك ، ولم يأت في ذلك حديث صحيح ، والجزم بوقوعه أو عدمه ، يتوقف على الدليل ، والله أعلم بذلك وغيره ، ولكن توعده إياهم بذلك مع اقتداره ، دليلٌ على وقوعه ، ولأنه لو لم يقع لذكره الله ، ولاتفاق الناقلين على ذلك .