Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 1-51)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * طسۤمۤ * تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ * نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } إلى آخر القصة . { تِلْكَ } الآيات المستحقة للتعظيم والتفخيم { آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } لكل أمر يحتاج إليه العباد ، من معرفة ربهم ، ومعرفة حقوقه ، ومعرفة أوليائه وأعدائه ، ومعرفة وقائعه وأيامه ، ومعرفة ثواب الأعمال ، وجزاء العمال ، فهذا القرآن قد بينها غاية التبيين ، وجلاَّها للعباد ووضحها . ومن جملة ما أبان ، قصة موسى وفرعون ، فإنه أبداها ، وأعادها في عدة مواضع ، وبسطها في هذا الموضع فقال : { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ } . فإن نبأهما غريب ، وخبرهما عجيب . { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فإليهم يساق الخطاب ، ويوجه الكلام ، حيث إن معهم من الإيمان ما يقبلون به على تدبُّر ذلك ، وتلقِّيه بالقبول والاهتداء بمواقع العبر ، ويزدادون به إيماناً ويقيناً ، وخيراً إلى خيرهم ، وأما من عداهم ، فلا يستفيدون منه إلا إقامة الحجة عليهم ، وصانه اللّه عنهم ، وجعل بينهم وبينه حجاباً أن يفقهوه . فأول هذه القصة { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } في ملكه وسلطانه وجنوده وجبروته ، فصار من أهل العلو فيها ، لا من الأعلين فيها . { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } أي : طوائف متفرقة ، يتصرف فيهم بشهوته ، وينفذ فيهم ما أراد من قهره وسطوته . { يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ } وتلك الطائفة ، هم بنو إسرائيل ، الذين فضلهم اللّه على العالمين ، الذين له أن يكرمهم ويجلهم ، ولكنه استضعفهم ، بحيث إنه رأى أنهم لا منعة لهم تمنعهم مما أراده فيهم ، فصار لا يبالي بهم ، ولا يهتم بشأنهم ، وبلغت به الحال إلى أنه { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } خوفاً من أن يكثروا ، فيغمروه في بلاده ، ويصير لهم الملك . { إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } الذين لا قصد لهم في إصلاح الدين ، ولا إصلاح الدنيا ، وهذا من إفساده في الأرض . { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ } بأن نزيل عنهم مواد الاستضعاف ، ونهلك من قاومهم ، ونخذل مَنْ ناوأهم . { وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } في الدين ، وذلك لا يحصل مع استضعاف ، بل لا بد من تمكين في الأرض ، وقدرة تامة ، { وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ } للأرض ، الذين لهم العاقبة في الدنيا قبل الآخرة . { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } فهذه الأمور كلها ، قد تعلقت بها إرادة اللّه ، وجرت بها مشيئته ، { وَ } كذلك نريد أن { نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ } وزيره { وَجُنُودَهُمَا } التي بها صالوا وجالوا ، وعلوا وبغوا { مِنْهُمْ } أي : من هذه الطائفة المستضعفة . { مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } من إخراجهم من ديارهم ، ولذلك كانوا يسعون في قمعهم ، وكسر شوكتهم ، وتقتيل أبنائهم ، الذين هم محل ذلك ، فكل هذا قد أراده اللّه ، وإذا أراد أمراً سهّل أسبابه ، ونهج طرقه ، وهذا الأمر كذلك ، فإنه قدَّرَ وأجرى من الأسباب - التي لم يشعر بها لا أولياؤه ولا أعداؤه - ما هو سبب موصل إلى هذا المقصود ، فأول ذلك ، لما أوجد اللّه رسوله موسى ، الذي جعل استنقاذ هذا الشعب الإسرائيلي على يديه وبسببه ، وكان في وقت تلك المخافة العظيمة ، التي يذبحون بها الأبناء ، أوحى إلى أمه أن ترضعه ، ويمكث عندها . { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } بأن أحسست أحداً تخافين عليه منه أن يوصله إليهم ، { فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ } أي : نيل مصر ، في وسط تابوت مغلق ، { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } فبشرها بأنه سيرده عليها ، وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم ، ويجعله اللّه رسولاً . وهذا من أعظم البشائر الجليلة ، وتقديم هذه البشارة لأم موسى ، ليطمئن قلبها ، ويسكن روعها ، فإنها خافت عليه ، وفعلت ما أمرت به ، ألقته في اليم ، فساقه اللّه تعالى حتى { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ } فصار من لقطهم ، وهم الذين باشروا وجدانه ، { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أي : لتكون العاقبة والمآل من هذا الالتقاط ، أن يكون عدواً لهم وحزناً يحزنهم ، بسبب أن الحذر لا ينفع من القدر ، وأن الذي خافوا منه من بني إسرائيل ، قيَّض اللّه أن يكون زعيمهم ، يتربى تحت أيديهم ، وعلى نظرهم ، وبكفالتهم . وعند التدبر والتأمل ، تجد في طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل ، ودفع كثير من الأمور الفادحة بهم ، ومنع كثير من التعديات قبل رسالته ، بحيث إنه صار من كبار المملكة . وبالطبع ، إنه لا بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق شعبه هذا ، وهو هو ذو الهمة العالية والغيرة المتوقدة ، ولهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف - الذي بلغ بهم الذل والإهانة إلى ما قص اللّه علينا بعضه - أن صار بعض أفراده ، ينازع ذلك الشعب القاهر العالي في الأرض ، كما سيأتي بيانه . وهذا مقدمة للظهور ، فإن اللّه تعالى من سنته الجارية ، أن جعل الأمور تمشي على التدريج شيئاً فشيئاً ، ولا تأتي دفعة واحدة . وقوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } أي : فأردنا أن نعاقبهم على خطئهم ونكيد هم جزاءً على مكرهم وكيدهم . فلما التقطه آل فرعون ، حنَّن اللّه عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة المؤمنة " آسية " بنت مزاحم { وَقَالَتِ } هذا الولد { قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ } أي : أبقه لنا ، لِيقرَّ به أعيننا ، ونستر به في حياتنا . { عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } أي : لا يخلو ، إما أن يكون بمنزلة الخدم ، الذين يسعون في نفعنا وخدمتنا ، أو نرقيه منزلة أعلى من ذلك ، نجعله ولداً لنا ، ونكرمه ، ونجله . فقدَّر اللّه تعالى ، أنه نفع امرأة فرعون ، التي قالت تلك المقالة ، فإنه لما صار قرة عين لها ، وأحبته حباً شديداً ، فلم يزل لها بمنزلة الولد الشفيق حتى كبر ونبأه اللّه وأرسله ، فبادرت إلى الإسلام والإيمان به ، رضي اللّه عنها وأرضاها . قال اللّه تعالى هذه المراجعات [ والمقاولات ] في شأن موسى : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } ما جرى به القلم ، ومضى به القدر ، من وصوله إلى ما وصل إليه ، وهذا من لطفه تعالى ، فإنهم لو شعروا ، لكان لهم وله شأن آخر . ولما فقدت موسى أُمه ، حزنت حزناً شديداً ، وأصبح فؤادها فارغاً من القلق الذي أزعجها ، على مقتضى الحالة البشرية ، مع أن اللّه تعالى نهاها عن الحزن والخوف ، ووعدها برده . { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } أي : بما في قلبها { لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا } فثبتناها ، فصبرت ، ولم تبد به . { لِتَكُونَ } بذلك الصبر والثبات { مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } فإن العبد إذا أصابته مصيبة فصبر وثبت ، ازداد بذلك إيمانه ، ودلّ ذلك على أن استمرار الجزع مع العبد ، دليل على ضعف إيمانه . { وَقَالَتْ } أم موسى { لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي : اذهبي [ فقصي الأثر عن أخيك وابحثي عنه من غير أن يحس بك أحدٌ أو يشعروا بمقصودك فذهبت تقصه ] { فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي : أبصرته على وجه ، كأنها مارة لا قصد لها فيه . وهذا من تمام الحزم والحذر ، فإنها لو أبصرته ، وجاءت إليهم قاصدة ، لظنوا بها أنها هي التي ألقته ، فربما عزموا على ذبحه ، عقوبة لأهله . ومن لطف اللّه بموسى وأمه ، أن منعه من قبول ثدي امرأة ، فأخرجوه إلى السوق رحمة به ، ولعل أحداً يطلبه ، فجاءت أخته ، وهو بتلك الحال { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } . وهذا جُلُّ غرضهم ، فإنهم أحبوه حباً شديداً ، وقد منعه اللّه من المراضع فخافوا أن يموت ، فلما قالت لهم أخته تلك المقالة ، المشتملة على الترغيب في أهل هذا البيت ، بتمام حفظه وكفالته والنصح له ، بادروا إلى إجابتها ، فأعلمتهم ودلتهم على أهل هذا البيت . { فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ } كما وعدناها بذلك { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ } بحيث إنه تربى عندها على وجه تكون فيه آمنة مطمئنة ، تفرح به ، وتأخذ الأجرة الكثيرة على ذلك ، { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } فأريناها بعض ما وعدناها به عياناً ، ليطمئن بذلك قلبها ، ويزداد إيمانها ، ولتعلم أنه سيحصل وعد اللّه في حفظه ورسالته ، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } فإذا رأوا السبب متشوشاً ، شوش ذلك إيمانهم ، لعدم علمهم الكامل ، أن اللّه تعالى يجعل المحن الشاقة والعقبات الشاقة ، بين يدي الأمور العالية والمطالب الفاضلة ، فاستمر موسى عليه الصلاة والسلام عند آل فرعون ، يتربى في سلطانهم ، ويركب مراكبهم ، ويلبس ملابسهم ، وأمه بذلك مطمئنة ، قد استقر أنها أمه من الرضاع ، ولم يستنكر ملازمته إياها وحنوها عليها . وتأمل هذا اللطف ، وصيانة نبيه موسى من الكذب في منطقه ، وتيسير الأمر ، الذي صار به التعلق بينه وبينها ، الذي بان للناس أنه هو الرضاع ، الذي بسببه يسميها أُمَّاً ، فكان الكلام الكثير منه ومن غيره في ذلك كله صدقاً وحقاً . { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } من القوة والعقل واللب ، وذلك نحو أربعين سنة في الغالب ، { وَٱسْتَوَىٰ } كملت فيه تلك الأمور ، { آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } أي : حكماً يعرف به الأحكام الشرعية ، ويحكم به بين الناس ، وعلماً كثيراً . { وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } في عبادة اللّه ، المحسنين لخلق اللّه ، نعطيهم علماً وحكماً بحسب إحسانهم ، ودلَّ هذا على كمال إحسان موسى عليه السلام . { وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا } إما وقت القائلة ، أو غير ذلك من الأوقات التي بها يغفلون عن الانتشار . { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ } أي : يتخاصمان ويتضاربان { هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ } أي : من بني إسرائيل { وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ } القبط . { فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } لأنه قد اشتهر ، وعلم الناس أنه من بني إسرائيل ، واستغاثته لموسى ، دليل على أنه بلغ موسى عليه السلام مبلغاً يخاف منه ، ويرجى من بيت المملكة والسلطان . { فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ } أي : وكز الذي من عدوه ، استجابة لاستغاثة الإسرائيلي ، { فَقَضَىٰ عَلَيْهِ } أي : أماته من تلك الوكزة ، لشدتها وقوة موسى . فندم موسى عليه السلام على ما جرى منه ، و { قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } أي : من تزيينه ووسوسته ، { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } فلذلك أجريت ما أجريت بسبب عداوته البينة ، وحرصه على الإضلال . ثم استغفر ربه { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } خصوصاً للمخبتين ، المبادرين للإنابة والتوبة ، كما جرى من موسى عليه السلام . فـ { قَالَ } موسى { رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } بالتوبة والمغفرة ، والنعم الكثيرة ، { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً } أي : معيناً ومساعداً { لِّلْمُجْرِمِينَ } أي : لا أعين أحداً على معصية ، وهذا وعد من موسى عليه السلام ، بسبب منّة اللّه عليه ، أن لا يعين مجرماً ، كما فعل في قتل القبطي . وهذا يفيد أن النِعم تقتضي من العبد فعل الخير ، وترك الشر . { فَـ } لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه { أَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } هل يشعر به آل فرعون ، أم لا ؟ وإنما خاف ، لأنه قد علم ، أنه لا يتجرأ أحد على مثل هذه الحال سوى موسى من بني إسرائيل . فبينما هو على تلك الحال { فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ } على عدوه { يَسْتَصْرِخُهُ } على قبطي آخر . { قَالَ لَهُ مُوسَىٰ } موبخاً له على حاله { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } أي : بين الغواية ، ظاهر الجراءة . { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ } موسى { بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا } أي : له وللمخاصم المستصرخ ، أي : لم يزل اللجاج بين القبطي والإسرائيلي ، وهو يستغيث بموسى ، فأخذته الحمية ، حتى هم أن يبطش بالقبطي ، { قَالَ } له القبطي زاجراً له عن قتله : { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ } لأن من أعظم آثار الجبار في الأرض ، قتل النفس بغير حق . { وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ } وإلا فلو أردت الإصلاح لحلت بيني وبينه من غير قتل أحد ، فانكفَّ موسى عن قتله ، وارعوى لوعظه وزجره ، وشاع الخبر بما جرى من موسى في هاتين القضيتين ، حتى تراود ملأ فرعون وفرعون على قتله ، وتشاوروا على ذلك . وقيض اللّه ذلك الرجل الناصح ، وبادرهم إلى الإخبار لموسى بما اجتمع عليه رَأْيُ ملئِهم . فقال : { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ } أي : ركضاً على قدميه من نصحه لموسى ، وخوفه أن يوقعوا به قبل أن يشعر ، فـ { قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ } أي : يتشاورون فيك { لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ } عن المدينة { إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } فامتثل نصحه . { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } أن يوقع به القتل ، ودعا اللّه ، و { قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } فإنه قد تاب من ذنبه وفعله غضباً من غير قصد منه للقتل ، فَتَوعُّدُهُمْ له ظلم منهم وجراءة . { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } أي : قاصداً بوجهه مدين ، وهو جنوبي فلسطين ، حيث لا ملك لفرعون ، { قَالَ عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } أي : وسط الطريق المختصر ، الموصل إليها بسهولة ورفق ، فهداه اللّه سواء السبيل ، فوصل إلى مدين . { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ } مواشيهم ، وكانوا أهل ماشية كثيرة { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } أي : دون تلك الأمة { ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ } غنمهما عن حياض الناس ، لعجزهما عن مزاحمة الرجال وبخلهم ، وعدم مروءتهم عن السقي لهما . { قَالَ } لهما موسى { مَا خَطْبُكُمَا } أي : ما شأنكما بهذه الحالة ، { قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ } أي : قد جرت العادة أنه لا يحصل لنا سقي حتى يصدر الرعاء مواشيهم ، فإذا خلا لنا الجو سقينا ، { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } أي : لا قوة له على السقي ، فليس فينا قوة ، نقتدر بها ، ولا لنا رجال يزاحمون الرعاء . فرَقّ لهما موسى عليه السلام ورحمهما { فَسَقَىٰ لَهُمَا } غير طالب منهما الأجرة ، ولا له قصد غير وجه اللّه تعالى ، فلما سقى لهما ، وكان ذلك وقت شدة حر ، وسط النهار ، بدليل قوله : { ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ } مستريحاً لذلك الظلال بعد التعب . { فَقَالَ } في تلك الحالة ، مسترزقاً ربه { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } أي : إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي . وهذا سؤال منه بحاله ، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال ، فلم يزل في هذه الحالة داعياً ربه متملقاً . وأما المرأتان ، فذهبتا إلى أبيهما ، وأخبرتاه بما جرى ، فأرسل أبوهما إحداهما إلى موسى ، فجاءته { تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ } وهذا يدل على كرم عنصرها ، وخلقها الحسن ، فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة ، وخصوصاً في النساء . ويدل على أن موسى عليه السلام ، لم يكن فيما فعله من السقي بمنزلة الأجير والخادم الذي لا يستحى منه عادة ، وإنما هو عزيز النفس ، رأت من حسن خلقه ومكارم أخلاقه ، ما أوجب لها الحياء منه ، فـ { قَالَتْ } له : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أي : لا لِيمُنَّ عليك ، بل أنت الذي ابتدأتنا بالإحسان ، وإنما قصده أن يكافئك على إحسانك ، فأجابها موسى . { فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ } من ابتداء السبب الموجب لهربه ، إلى أن وصل إليه { قَالَ } له مسكناً روعه ، جابراً قلبه : { لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أي : ليذهب خوفك وروعك ، فإن اللّه نجاك منهم ، حيث وصلت إلى هذا المحل ، الذي ليس لهم عليه سلطان . { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا } أي : إحدى ابنتيه { يٰأَبَتِ ٱسْتَئْجِرْهُ } أي : اجعله أجيراً عندك ، يرعى الغنم ويسقيها ، { إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَئْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ } أي : إن موسى أولى من استؤجر فإنه جمع القوة والأمانة ، وخير أجير استؤجر ، من جمعهما ، أي : القوة والقدرة على ما استؤجر عليه ، والأمانة فيه بعدم الخيانة ، وهذان الوصفان ، ينبغي اعتبارهما في كل مَنْ يتولى للإنسان عملاً ، بإجارة أو غيرها . فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما ، وأما اجتماعهما ، فإن العمل يتم ويكمل ، وإنما قالت ذلك ، لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه ، ما عرفت به قوته ، وشاهدت من أمانته وديانته ، وأنه رحمهما في حالة لا يرجى نفعهما ، وإنما قصده [ بذلك ] وجه اللّه تعالى . { قَالَ } صاحب مدين لموسى { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي } أي تصير أجيراً عندي { ثَمَانِيَ حِجَجٍ } أي : ثماني سنين . { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ } تبرع منك ، لا شيء واجب عليك . { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } فأُحتِّم عشر السنين ، أو ما أريد أن أستأجرك لأكلفك أعمالاً شاقة ، وإنما استأجرك لعمل سهل يسير لا مشقة فيه { سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } فرغبه في سهولة العمل ، وفي حسن المعاملة ، وهذا يدل على أن الرجل الصالح ، ينبغي له أن يحسن خلقه مهما أمكنه ، وأن الذي يطلب منه ، أبلغ من غيره . فـ { قَالَ } موسى عليه السلام - مجيباً له فيما طلبه منه - : { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ } أي : هذا الشرط ، الذي أنت ذكرت ، رضيت به ، وقد تم فيما بيني وبينك . { أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } سواء قضيت الثماني الواجبة ، أم تبرعت بالزائد عليها { وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } حافظ يراقبنا ، ويعلم ما تعاقدنا عليه . وهذا الرجل ، أبو المرأتين ، صاحب مدين ، ليس بشعيب النبي المعروف ، كما اشتهر عند كثير من الناس ، فإن هذا قول لم يدل عليه دليل ، وغاية ما يكون ، أن شعيباً عليه السلام ، قد كانت بلده مدين ، وهذه القضية جرت في مدين ، فأين الملازمة بين الأمرين . وأيضاً ، فإنه غير معلوم أن موسى أدرك زمان شعيب ، فكيف بشخصه ؟ ! ! ولو كان ذلك الرجل شعيباً ، لذكره اللّه تعالى ، ولسمته المرأتان ، وأيضاً فإن شعيباً عليه الصلاة والسلام ، قد أهلك اللّه قومه بتكذيبهم إياه ، ولم يبق إلا مَنْ آمن به ، وقد أعاذ اللّه المؤمنين أن يرضوا لبنتي نبيهم ، بمنعهما عن الماء ، وصد ماشيتهما ، حتى يأتيهما رجل غريب ، فيحسن إليهما ، ويسقي ماشيتهما ، وما كان شعيب ليرضى أن يرعى موسى عنده ويكون خادماً له ، وهو أفضل منه وأعلى درجة ، والله أعلم ، [ إلا أن يقال : هذا قبل نبوة موسى فلا منافاة وعلى كل حالٍ لا يعتمد على أنه شعيب النبي بغير نقل صحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ] . { فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ } يحتمل أنه قضى الأجل الواجب ، أو الزائد عليه ، كما هو الظن بموسى ووفائه ، اشتاق إلى الوصول إلى أهله ووالدته وعشيرته ووطنه ، وعلم من طول المدة ، أنهم قد تناسوا ما صدر منه . { سَارَ بِأَهْلِهِ } قاصداً مصر ، { آنَسَ } أي : أبصر { مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } وكان قد أصابهم البرد ، وتاهوا الطريق . فلما أتاها نودي { يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } فأخبر بألوهيته وربوبيته ، ويلزم من ذلك ، أن يأمره بعبادته وتألهه ، كما صرح به في الآية الأخرى { فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [ طه : 14 ] . { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } فألقاها { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } تسعى سعياً شديداً ، ولها سورة مُهِيلة { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } ذَكَرُ الحيات العظيم ، { وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي : يرجع لاستيلاء الروع على قلبه ، فقال اللّه له : { يٰمُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ } وهذا أبلغ ما يكون في التأمين وعدم الخوف . فإن قوله : { أَقْبِلْ } يقتضي الأمر بإقباله ، ويجب عليه الامتثال ، ولكن قد يكون إقباله ، وهو لم يزل في الأمر المخوف ، فقال : { وَلاَ تَخَفْ } أمر له بشيئين ، إقباله ، وأن لا يكون في قلبه خوف ، ولكن يبقى احتمال ، وهو أنه قد يقبل وهو غير خائف ، ولكن لا تحصل له الوقاية والأمن من المكروه ، فقال : { إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ } فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه ، فأقبل موسى عليه السلام غير خائف ولا مرعوب ، بل مطمئناً ، واثقاً بخبر ربه ، قد ازداد إيمانه ، وتم يقينه ، فهذه آية ، أراه اللّه إياها قبل ذهابه إلى فرعون ، ليكون على يقين تام ، فيكون أجرأ له ، وأقوى وأصلب . ثم أراه الآية الأخرى فقال : { ٱسْلُكْ يَدَكَ } أي : أدخلها { فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } فسلكها وأخرجها ، كما ذكر اللّه تعالى . { وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ } أي ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك يزول عنك الرهب والخوف . { فَذَانِكَ } انقلاب العصا حية ، وخروج اليد بيضاء من غير سوء { بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ } أي : حجتان قاطعتان من اللّه ، { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } فلا يكفيهم مجرد الإنذار وأمر الرسول إياهم ، بل لا بد من الآيات الباهرة ، إن نفعت . فـ { قَالَ } موسى عليه السلام . معتذراً من ربه ، وسائلاً له المعونة على ما حمله ، وذاكراً له الموانع التي فيه ، ليزيل ربه ما يحذره منها . { رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً } أي : { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً } أي : معاوناً ومساعداً { يُصَدِّقُنِي } فإنه مع تضافر الأخبار يقوى الحق فأجابه اللّه إلى سؤاله فقال : { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } أي : نعاونك به ونقويك . ثم أزال عنه محذور القتل ، فقال : { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً } أي : تسلطاً ، وتمكُّناً من الدعوة بالحجة ، والهيبة الإلهية من عدوهما لهما ، { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } وذلك بسبب آياتنا ، وما دلت عليه من الحق ، وما أزعجت به مَنْ باشرها ونظر إليها ، فهي التي بها حصل لكما السلطان ، واندفع بها عنكم كيد عدوكم ، وصارت لكم أبلغ من الجنود ، أولي الْعَدَدِ والْعُدَدِ . { أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَالِبُونَ } وهذا وعد لموسى في ذلك الوقت ، وهو وحده فريد ، وقد رجع إلى بلده ، بعد ما كان شريداً ، فلم تزل الأحوال تتطور ، والأمور تنتقل ، حتى أنجز الله له موعوده ، ومكّنه من العباد والبلاد ، وصار له ولأتباعه الغلبة والظهور . فذهب موسى برسالة ربه { فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ } واضحات الدلالة على ما قال لهم ، ليس فيها قصور ولا خفاء . { قَالُواْ } على وجه الظلم والعلو والعناد : { مَا هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } كما قال فرعون في تلك الحالة التي ظهر فيها الحق ، واستعل على الباطل ، واضمحل الباطل ، وخضع له الرؤساء العارفون حقائق الأمور . { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ } [ طه : 71 ] هذا ، وهو الذكي غير الزكي ، الذي بلغ من المكر والخداع والكيد ما قصه اللّه علينا وقد علم { مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الإسراء : 102 ] ولكن الشقاء غالب . { وَمَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ } وقد كذبوا في ذلك ، فإن اللّه أرسل يوسف عليه السلام قبل موسى ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ بِهِ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } [ غافر : 34 ] . { وَقَالَ مُوسَىٰ } حين زعموا أنَّ الذي جاءهم به سحر وضلال ، وأن ما هم عليه هو الهدى : { رَبِّيۤ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ ٱلدَّارِ } أي : إذا لم تفد المقابلة معكم ، وتبيين الآيات البينات ، وأبيتم إلا التمادي في غيكم واللجاج على كفركم ، فاللّه تعالى العالم بالمهتدي وغيره ، ومَنْ تكون له عاقبة الدار ، نحن أم أنتم { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } فصار عاقبة الدار لموسى وأتباعه ، والفلاح والفوز ، وصار لأولئك ، الخسار وسوء العاقبة والهلاك . { وَقَالَ فِرْعَوْنُ } متجرئاً على ربه ، ومموهاً على قومه السفهاء ، أخفاء العقول : { يٰأَيُّهَا ٱلْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } أي : أنا وحدي إلهكم ومعبودكم ، ولو كان ثَمَّ إله غيري ، لعلمته ، فانظر إلى هذا الورع التام من فرعون ! حيث لم يقل " ما لكم من إله غيري " بل تورع وقال : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } . وهذا ، لأنه عندهم العالم الفاضل ، الذي مهما قال فهو الحق ، ومهما أمر أطاعوه . فلما قال هذه المقالة ، التي قد تحتمل أن ثَمَّ إلهاً غيره ، أراد أن يحقق النفي ، الذي جعل فيه ذلك الاحتمال ، فقال لـ " هامان " : { فَأَوْقِدْ لِي يٰهَامَانُ عَلَى ٱلطِّينِ } ليجعل له لبناً من فخار . { فَٱجْعَل لِّي صَرْحاً } أي : بناء { لَّعَلِّيۤ أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } ولكن سنحقق هذا الظن ، ونريكم كذب موسى . فانظر هذه الجراءة العظيمة على اللّه ، التي ما بلغها آدمي ، كذّب موسى ، وادَّعى أنه إله ، ونفى أن يكون له علم بالإله الحق ، وفعل الأسباب ، ليتوصل إلى إله موسى ، وكل هذا ترويج ، ولكن العجب من هؤلاء الملأ ، الذين يزعمون أنهم كبار المملكة ، المدبرون لشؤونها ، كيف لعب هذا الرجل بعقولهم ، واستخف أحلامهم ، وهذا لفسقهم الذي صار صفة راسخة فيهم . فسد دينهم ، ثم تبع ذلك فساد عقولهم ، فنسألك اللهم الثبات على الإيمان ، وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وتهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب . قال تعالى : { وَٱسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } استكبروا على عباد اللّه ، وساموهم سوء العذاب ، واستكبروا على رسل اللّه ، وما جاؤوهم به من الآيات ، فكذبوها ، وزعموا أن ما هم عليه أعلى منها وأفضل . { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } فلذلك تجرؤوا ، وإلا فلو علموا ، أو ظنوا أنهم يرجعون إلى اللّه ، لما كان منهم ما كان . { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ } عندما استمر عنادهم وبغيهم { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلظَّالِمِينَ } كانت أشر العواقب وأخسرها عاقبة أعقبتها العقوبة الدنيوية المستمرة ، المتصلة بالعقوبة الأخروية . { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ } أي جعلنا فرعون وملأه من الأئمة الذين يقتدى بهم ويمشى خلفهم إلى دار الخزي والشقاء . { وَيَوْمَ ٱلْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ } من عذاب اللّه ، فهم أضعف شيء ، عن دفعه عن أنفسهم ، وليس لهم من دون اللّه من ولي ولا نصير . [ { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً } أي : ] وأتبعناهم ، زيادة في عقوبتهم وخزيهم ، في الدنيا لعنة يلعنون ، ولهم عند الخلق الثناء القبيح والمقت والذم ، وهذا أمر مشاهد ، فهم أئمة الملعونين في الدنيا ومقدمتهم ، { وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ } المبعدين ، المستقذرة أفعالهم . الذين اجتمع عليهم مقت اللّه ، ومقت خلقه ، ومقت أنفسهم . { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ } وهو التوراة { مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلأُولَىٰ } الذين كان خاتمتهم في الإهلاك العام ، فرعون وجنوده . وهذا دليل على أنه بعد نزول التوراة ، انقطع الهلاك العام ، وشرع جهاد الكفار بالسيف . { بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ } أي : كتاب اللّه ، الذي أنزله على موسى ، فيه بصائر للناس ، أي : أمور يبصرون بها ما ينفعهم وما يضرهم ، فتقوم الحجة على العاصي ، وينتفع بها المؤمن ، فتكون رحمة في حقه ، وهداية له إلى الصراط المستقيم ، ولهذا قال : { وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } . ولما قص اللّه على رسوله ما قص ، من هذه الأخبار الغيبية ، نبه العباد على أن هذا خبر إلهي محض ، ليس للرسول طريق إلى علمه إلا من جهة الوحي ، ولهذا قال : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ } أي : بجانب الطور الغربي وقت قضائنا لموسى الأمر ، { وَمَا كنتَ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ } على ذلك ، حتى يقال : إنه وصل إليك من هذا الطريق . { وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ } فاندرس العلم ونسيت آياته ، فبعثناك في وقت اشتدت الحاجة إليك وإلى ما علمناك وأوحينا إليك . { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً } أي : مقيماً { فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي : تعلمهم وتتعلم منهم ، حتى أخبرت بما أخبرت من شأن موسى في مدين ، { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } أي : ولكن ذلك الخبر الذي جئت به عن موسى ، أثر من آثار إرسالنا إياك ، ووَحْيٌ لا سبيل لك إلى علمه بدون إرسالنا . { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ٱلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } موسى ، وَأمرناه أن يأتي القوم الظالمين ، ويبلغهم رسالتنا ، ويريهم من آياتنا وعجائبنا ما قصصنا عليك . والمقصود : أن الماجريات التي جرت لموسى عليه الصلاة والسلام في هذه الأماكن ، فقصصتها كما هي ، من غير زيادة ولا نقص ، لا يخلو من أحد أمرين : إما أن تكون حضرتها وشاهدتها ، أو ذهبت إلى محالِّها فتعلمتها من أهلها ، فحينئذ قد لا يدل ذلك على أنك رسول اللّه ، إذ الأمور التي يخبر بها عن شهادة ودراسة ، من الأمور المشتركة غير المختصة بالأنبياء ، ولكن هذا قد عُلِمَ وتيقّن أنه ما كان وما صار ، فأولياؤك وأعداؤك يعلمون عدم ذلك . فتعين الأمر الثاني ، وهو : أن هذا جاءك من قِبَلِ اللّه ووحيه وإرساله ، فثبت بالدليل القطعي صحة رسالتك ، ورحمة اللّه بك للعباد ، ولهذا قال : { وَلَـٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } أي : العرب وقريش ، فإن الرسالة [ عندهم ] لا تعرف وقت إرسال الرسول وقبله بأزمان متطاولة ، { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } تفصيل الخير فيفعلونه ، والشر فيتركونه ، فإذا كنت بهذه المنزلة ، كان الواجب عليهم ، المبادرة إلى الإيمان بك ، وشكر هذه النعمة ، التي لا يقادر قدرها ، ولا يدرك شكرها . وإنذاره للعرب لا ينفي أن يكون مرسلاً لغيرهم ، فإنه عربي ، والقرآن الذي أنزل عليه عربي ، وأول مَنْ باشر بدعوته العرب ، فكانت رسالته إليهم أصلاً ، ولغيرهم تبعاً ، كما قال تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ } [ يونس : 2 ] { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] . { وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من الكفر والمعاصي { فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي : فأرسلناك يا محمد ، لدفع حجتهم ، وقطع مقالتهم . { فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } الذي لا شك فيه { مِنْ عِندِنَا } وهو القرآن ، الذي أوحيناه إليك { قَالُواْ } مكذبين له ، ومعترضين بما ليس يعترض به : { لَوْلاۤ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ } أي : أنزل عليه كتاب من السماء جملة واحدة . أي : فأما ما دام ينزل متفرقاً ، فإنه ليس من عند اللّه . وأي : دليل في هذا ؟ وأي : شبهة أنه ليس من عند اللّه حين نزل مفرقاً ؟ بل من كمال هذا القرآن ، واعتناء اللّه بمن أنزل عليه ، أن نزل متفرقاً ، ليثبت اللّه به فؤاد رسوله ، ويحصل زيادة الإيمان للمؤمنين { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [ الفرقان : 33 ] . وأيضاً ، فإن قياسهم على كتاب موسى ، قياس قد نقضوه ، فكيف يقيسونه على كتاب كفروا به ولم يؤمنوا ؟ ولهذا قال { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } أي : القرآن والتوراة ، تعاونا في سحرهما ، وإضلال الناس { وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } فثبت بهذا أن القوم يريدون إبطال الحق بما ليس ببرهان ، وينقضونه بما لا ينقض ، ويقولون الأقوال المتناقضة المختلفة ، وهذا شأن كل كافر . ولهذا صرّح أنهم كفروا بالكتابين والرسولين ، ولكن هل كفرهم بهما كان طلباً للحق ، واتباعاً لأمر عندهم خير منهما ، أم مجرد هوى ؟ . قال تعالى ملزماً لهم بذلك : { قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ } أي : من التوراة والقرآن { أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ولا سبيل لهم ولا لغيرهم أن يأتوا بمثلهما ، فإنه ما طرق العالم منذ خلقه اللّه ، مثل هذين الكتابين ، علماً وهدى ، وبياناً ، ورحمة للخلق ، وهذا من كمال الإنصاف من الداعي أن قال : أنا مقصودي الحق والهدى والرشد ، وقد جئتكم بهذا الكتاب المشتمل على ذلك ، الموافق لكتاب موسى ، فيجب علينا جميعاً الإذعان لهما واتباعهما ، من حيث كونهما هدى وحقاً ، فإن جئتموني بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما اتبعته ، وإلا فلا أترك هدى وحقاً قد علمته لغير هدى وحق . { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ } فلم يأتوا بكتاب أهدى منهما { فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ } أي : فاعلم أن تركهم اتباعك ، ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه ، ولا إلى هدى ، وإنما ذلك مجرد اتباع لأهوائهم . { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ } فهذا من أضل الناس ، حيث عرض عليه الهدى والصراط المستقيم ، الموصل إلى اللّه وإلى دار كرامته ، فلم يلتفت إليه ولم يقبل عليه ، ودعاه هواه إلى سلوك الطرق الموصلة إلى الهلاك والشقاء ، فاتبعه وترك الهدى ، فهل أحد أضل ممن هذا وصفه ؟ ! ! ولكن ظلمه وعدوانه ، وعدم محبته للحق ، هو الذي أوجب له : أن يبقى على ضلاله ولا يهديه اللّه ، فلهذا قال : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } أي : الذين صار الظلم لهم وصفاً والعناد لهم نعتاً ، جاءهم الهدى فرفضوه ، وعرض لهم الهوى فتبعوه ، سدوا على أنفسهم أبواب الهداية وطرقها ، وفتحوا عليهم أبواب الغواية وسبلها ، فهم في غيهم وظلمهم يعمهون ، وفي شقائهم وهلاكهم يترددون . وفي قوله : { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ } دليل على أن كل مَنْ لم يستجب للرسول ، وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول ، فإنه لم يذهب إلى هدى ، وإنما ذهب إلى هوى . { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ } أي : تابعناه وواصلناه ، وأنزلناه شيئاً فشيئاً ، رحمة بهم ولطفاً { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } حين تتكرر عليهم آياته ، وتنزل عليهم بيناته وقت الحاجة إليها . فصار نزوله متفرقاً رحمة بهم ، فلم اعترضوا على ما هو من مصالحهم ؟ فصل في ذكر بعض الفوائد والعبر في هذه القصة العجيبة فمنها أن آيات اللّه تعالى وعبره ، وأيامه في الأمم السابقة ، إنما يستفيد بها ويستنير المؤمنون ، فعلى حسب إيمان العبد تكون عبرته ، وإن اللّه تعالى إنما يسوق القصص ، لأجلهم ، وأما غيرهم ، فلا يعبأ اللّه بهم ، وليس لهم منها نور وهدى . ومنها : أن اللّه تعالى إذا أراد أمراً هيّأ أسبابه ، وأتى بها شيئاً فشيئاً بالتدريج ، لا دفعة واحدة . ومنها : أن الأمة المستضعفة ، ولو بلغت في الضعف ما بلغت ، لا ينبغي لها أن يستولي عليها الكسل عن طلب حقها ، ولا الإياس من ارتقائها إلى أعلى الأمور ، خصوصاً إذا كانوا مظلومين ، كما استنقذ اللّه أُمة بني إسرائيل ، الأمة الضعيفة ، من أسر فرعون وملئه ، ومكّنهم في الأرض ، وملّكهم بلادهم . ومنها : أن الأمة ما دامت ذليلة مقهورة لا تأخذ حقها ولا تتكلم به ، لا يقوم لها أمر دينها ، [ ولا دنياها ] ولا يكون لها إمامة فيه . ومنها : لطف اللّه بأم موسى ، وتهوينه عليها المصيبة بالبشارة ، بأن اللّه سيرد إليها ابنها ، ويجعله من المرسلين . ومنها : أن اللّه يقدِّر على عبده بعض المشاق ، لينيله سروراً أعظم من ذلك ، أو يدفع عنه شراً أكثر منه ، كما قدَّر على أم موسى ذلك الحزن الشديد ، والهم البليغ ، الذي هو وسيلة إلى أن يصل إليها ابنها ، على وجه تطمئن به نفسها ، وتقر به عينها ، وتزداد به غبطةً وسروراً . ومنها : أن الخوف الطبيعي من الخلق ، لا ينافي الإيمان ولا يزيله ، كما جرى لأم موسى ولموسى من تلك المخاوف . ومنها : أن الإيمان يزيد وينقص . وأن من أعظم ما يزيد به الإيمان ، ويتم به اليقين ، الصبر عند المزعجات ، والتثبيت من اللّه عند المقلقات ، كما قال تعالى : { بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي : ليزداد إيمانها بذلك ويطمئن قلبها . ومنها : أن من أعظم نِعَم اللّه على عبده ، و [ أعظم ] معونة للعبد على أموره ، تثبيت اللّه إياه ، وربط جأشه وقلبه عند المخاوف ، وعند الأمور المذهلة ، فإنه بذلك يتمكن من القول الصواب ، والفعل الصواب ، بخلاف من استمر قلقه وروعه وانزعاجه ، فإنه يضيع فكره ، ويذهل عقله ، فلا ينتفع بنفسه في تلك الحال . ومنها : أن العبد - ولو عرف أن القضاء والقدر ووعد اللّه نافذ لا بد منه - فإنه لا يهمل فعل الأسباب التي أمر بها ، ولا يكون ذلك منافياً لإيمانه بخبر اللّه ، فإن اللّه قد وعد أم موسى أن يرده عليها ، ومع ذلك ، اجتهدت على رده ، وأرسلت أخته لتقصه وتطلبه . ومنها : جواز خروج المرأة في حوائجها ، وتكليمها للرجال من غير محذور ، كما جرى لأخت موسى وابنتي صاحب مدين . ومنها : جواز أخذ الأجرة على الكفالة والرضاع ، والدلالة على مَنْ يفعل ذلك . ومنها : أن اللّه من رحمته بعبده الضعيف الذي يريد إكرامه ، أن يريه من آياته ، ويشهده من بيناته ، ما يزيد به إيمانه ، كما رد الله موسى على أمه ، لتعلم أن وعد اللّه حق . ومنها : أن قتل الكافر الذي له عهد بعقد أو عُرف ، لا يجوز ، فإن موسى عليه السلام عدَّ قتله القبطي الكافر ذنباً ، واستغفر اللّه منه . ومنها : أن الذي يقتل النفوس بغير حق يُعد من الجبارين الذين يفسدون في الأرض . ومنها : أن من قتل النفوس بغير حق ، وزعم أنه يريد الإصلاح في الأرض ، وتهييب أهل المعاصي ، فإنه كاذب في ذلك ، وهو مفسد كما حكى اللّه قول القبطي { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ } على وجه التقرير له ، لا الإنكار . ومنها : أن إخبار الرجل غيره بما قيل فيه ، على وجه التحذير له من شر يقع فيه ، لا يكون ذلك نميمة - بل قد يكون واجباً - كما أخبر ذلك الرجل لموسى ، ناصحاً له ومحذراً . ومنها : أنه إذا خاف القتل والتلف في الإقامة ، فإنه لا يلقي بيده إلى التهلكة ، ولا يستسلم لذلك ، بل يذهب عنه ، كما فعل موسى . ومنها : أنه عند تزاحم المفسدتين ، إذا كان لا بد من ارتكاب إحداهما ، أنه يرتكب الأخف منهما والأسلم ، كما أن موسى ، لما دار الأمر بين بقائه في مصر ولكنه يقتل ، أو يذهب إلى بعض البلدان البعيدة التي لا يعرف الطريق إليها ، وليس معه دليل [ يد ] له غير ربه ، ولكن هذه الحالة أقرب للسلامة من الأولى ، فتبعها موسى . ومنها : أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى التكلم فيه ، إذا لم يترجح عنده أحد القولين ، فإنه يستهدي ربه ، ويسأله أن يهديه الصواب من القولين ، بعد أن يقصد بقلبه الحق ويبحث عنه ، فإن اللّه لا يخيب مَنْ هذه حاله . كما خرج موسى تلقاء مدين فقال : { عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } . ومنها : أن الرحمة بالخلق ، والإحسان على مَنْ يَعْرف ومَنْ لا يَعْرف ، من أخلاق الأنبياء ، وأن من الإحسان سقي الماشية الماء ، وإعانة العاجز . ومنها استحباب الدعاء بتبيين الحال وشرحها ، ولو كان اللّه عالماً لها ، لأنه تعالى ، يحب تضرع عبده وإظهار ذله ومسكنته ، كما قال موسى : { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } . ومنها : أن الحياء - خصوصاً من الكرام - من الأخلاق الممدوحة . ومنها : المكافأة على الإحسان لم يزل دأب الأمم السابقين . ومنها : أن العبد إذا فعل العمل للّه تعالى ، ثم حصل له مكافأة عليه من غير قصد بالقصد الأول ، أنَّه لا يلام على ذلك ، كما قبل موسى مجازاة صاحب مدين عن معروفه الذي لم يبتغ له ، ولم يستشرف بقلبه على عوض . ومنها : مشروعية الإجارة ، وأنها تجوز على رعاية الغنم ونحوها ، مما لا يقدر العمل ، وإنما مرده العُرف . ومنها : أنه تجوز الإجارة بالمنفعة ، ولو كانت المنفعة بضعاً . ومنها : أن خطبة الرجل لابنته الرجل الذي يتخيره ، لا يلام عليه . ومنها : أن خير أجير وعامل [ يعمل ] للإنسان ، أن يكون قوياً أميناً . ومنها : أن من مكارم الأخلاق ، أن يُحَسِّن خلقه لأجيره ، وخادمه ، ولا يشق عليه بالعمل ، لقوله : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } . ومنها : جواز عقد الإجارة وغيرها من العقود من دون إشهاد ، لقوله : { وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } . ومنها : ما أجرى اللّه على يد موسى من الآيات البينات ، والمعجزات الظاهرة ، من الحية ، وانقلاب يده بيضاء من غير سوء ، ومن عصمة اللّه لموسى وهارون ، من فرعون ، ومن الغرق . ومنها : أن من أعظم العقوبات أن يكون الإنسان إماماً في الشر ، وذلك بحسب معارضته لآيات اللّه وبيناته ، كما أن من أعظم نعمة أنعم اللّه بها على عبده ، أن يجعله إماماً في الخير هادياً مهدياً . ومنها : ما فيها من الدلالة على رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، حيث أخبر بذلك تفصيلاً مطابقاً ، وتأصيلاً موافقاً ، قصه قصاً ، صدَّق به المرسلين ، وأيّد به الحق المبين ، من غير حضور شيء من تلك الوقائع ، ولا مشاهدة لموضع واحد من تلك المواضع ، ولا تلاوة درس فيها شيئاً من هذه الأمور ، ولا مجالسة أحد من أهل العلم ، إن هو إلا رسالة الرحيم الرحمن ، ووحي أنزله عليه الكريم المنان ، لينذر به قوماً جاهلين ، وعن النذر والرسل غافلين . فصلوات اللّه وسلامه ، على مَنْ مجرد خبره ينبئ أنه رسول اللّه ، ومجرد أمره ونهيه ينبه العقول النيرة ، أنه من عند اللّه ، كيف وقد تطابق على صحة ما جاء به وصدقه خبر الأولين والآخرين ، والشرع الذي جاء به من رب العالمين ، وما جُبِلَ عليه من الأخلاق الفاضلة التي لا تناسب ولا تصلح إلا لأعلى الخلق درجة ، والنصر المبين لدينه وأمته ، حتى بلغ دينه مبلغ الليل والنهار ، وفتحت أمته معظم بلدان الأمصار ، بالسيف والسنان ، وقلوبهم بالعلم والإيمان . ولم تزل الأمم المعاندة ، والملوك الكفرة المتعاضدة ، ترميه بقوس واحدة ، وتكيد له المكايد ، وتمكر لإطفائه وإخفائه ، وإخماده من الأرض ، وهو قد بهرها وعلاها ، لا يزداد إلا نمواً ، ولا آياته وبراهينه إلاّ ظهوراً ، وكل وقت من الأوقات ، يظهر من آياته ما هو عبرة لِلْعَالَمِينَ ، وهداية لِلْعَالمِينَ ، ونور وبصيرة للمتوسمين . والحمد للّه وحده .