Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 33-37)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يخبر تعالى باختيار من اختاره من أوليائه وأصفيائه وأحبابه ، فأخبر أنه اصطفى آدم ، أي : اختاره على سائر المخلوقات ، فخلقه بيده ونفخ فيه من روحه ، وأمر الملائكة بالسجود له ، وأسكنه جنته ، وأعطاه من العلم والحلم والفضل ما فاق به سائر المخلوقات ، ولهذا فضل بنيه ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 70 ] . واصطفى نوحاً فجعله أول رسول إلى أهل الأرض حين عبدت الأوثان ، ووفقه من الصبر والاحتمال والشكر والدعوة إلى الله في جميع الأوقات ما أوجب اصطفاءه واجتباءه ، وأغرق الله أهل الأرض بدعوته ، ونجاه ومن معه في الفلك المشحون ، وجعل ذريته هم الباقين ، وترك عليه ثناء يذكر في جميع الأحيان والأزمان . واصطفى آل إبراهيم وهو إبراهيم خليل الرحمن الذي اختصه الله بخلته ، وبذل نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان ، ودعا إلى ربه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ، وجعله الله أسوة يقتدي به من بعده ، وجعل في ذريته النبوة والكتاب ، ويدخل في آل إبراهيم جميع الأنبياء الذين بعثوا من بعده لأنهم من ذريته ، وقد خصهم بأنواع الفضائل ما كانوا به صفوة على العالمين ، ومنهم سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى جمع فيه من الكمال ما تفرق في غيره ، وفاق صلى الله عليه وسلم الأولين والآخرين ، فكان سيد المرسلين المصطفى من ولد إبراهيم . واصطفى الله آل عمران وهو والد مريم بنت عمران ، أو والد موسى بن عمران عليه السلام ، فهذه البيوت التي ذكرها الله هي صفوته من العالمين ، وتسلسل الصلاح والتوفيق بذرياتهم ، فلهذا قال تعالى { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } أي : حصل التناسب والتشابه بينهم في الخلق والأخلاق الجميلة ، كما قال تعالى لما ذكر جملة من الأنبياء الداخلين في ضمن هذه البيوت الكبار { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَٱجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الأنعام : 87 ] { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يعلم من يستحق الاصطفاء فيصطفيه ومن لا يستحق ذلك فيخذله ويرديه ، ودل هذا على أن هؤلاء اختارهم لما علم من أحوالهم الموجبة لذلك فضلاً منه وكرماً ، ومن الفائدة والحكمة في قصه علينا أخبار هؤلاء الأصفياء أن نحبهم ونقتدي بهم ، ونسأل الله أن يوفقنا لما وفقهم ، وأن لا نزال نزري أنفسنا بتأخرنا عنهم وعدم اتصافنا بأوصافهم ومزاياهم الجميلة ، وهذا أيضاً من لطفه بهم ، وإظهاره الثناء عليهم في الأولين والآخرين ، والتنويه بشرفهم ، فلله ما أعظم جوده وكرمه وأكثر فوائد معاملته ، لو لم يكن لهم من الشرف إلا أن أذكارهم مخلدة ومناقبهم مؤبدة لكفى بذلك فضلاً ، ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة ذكر ما جرى لمريم والدة عيسى وكيف لطف الله بها في تربيتها ونشأتها ، فقال : { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ } أي : والدة مريم لما حملت { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } أي : جعلت ما في بطني خالصاً لوجهك ، محرراً لخدمتك وخدمة بيتك { فَتَقَبَّلْ مِنِّي } هذا العمل المبارك { إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } تسمع دعائي وتعلم نيتي وقصدي ، هذا وهي في البطن قبل وضعها { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } كأنها تشوفت أن يكون ذكراً ليكون أقدر على الخدمة وأعظم موقعاً ، ففي كلامها [ نوع ] عذر من ربها ، فقال الله : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } أي : لا يحتاج إلى إعلامها ، بل علمه متعلق بها قبل أن تعلم أمها ما هي { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } فيه دلالة على تفضيل الذكر على الأنثى ، وعلى التسمية وقت الولادة ، وعلى أن للأم تسمية الولد إذا لم يكره الأب { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } دعت لها ولذريتها أن يعيذهم الله من الشيطان الرجيم . { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } أي : جعلها نذيرة مقبولة ، وأجارها وذريتها من الشيطان { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } أي : نبتت نباتاً حسناً في بدنها وخلقها وأخلاقها ، لأن الله تعالى قيض لها زكريا عليه السلام { وَكَفَّلَهَا } إياه ، وهذا من رفقه بها ليربيها على أكمل الأحوال ، فنشأت في عبادة ربها وفاقت النساء ، وانقطعت لعبادة ربها ، ولزمت محرابها أي : مصلاها فكان { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } أي : من غير كسب ولا تعب ، بل رزق ساقه الله إليها ، وكرامة أكرمها الله بها ، فيقول لها زكريا { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } فضلا وإحسانا { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : من غير حسبان من العبد ولا كسب ، قال تعالى : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] وفي هذه الآية دليل على إثبات كرامات الأولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت الأخبار بذلك ، خلافاً لمن نفى ذلك ، فلما رأى زكريا عليه السلام ما منَّ الله به على مريم ، وما أكرمها به من رزقه الهنيء الذي أتاها بغير سعي منها ولا كسب ، طمعت نفسه بالولد ، فلهذا قال تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً … } .