Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 1-7)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كانت الفرس والروم في ذلك الوقت من أقوى دول الأرض ، وكان يكون بينهما من الحروب والقتال ، ما يكون بين الدول المتوازنة . وكانت الفرس مشركين يعبدون النار ، وكانت الروم أهل كتاب ينتسبون إلى التوراة والإنجيل ، وهم أقرب إلى المسلمين من الفرس ، فكان المؤمنون يحبون غلبتهم وظهورهم على الفرس ، وكان المشركون - لاشتراكهم والفرس في الشرك - يحبون ظهور الفرس على الروم . فظهر الفرس على الروم ، فغلبوهم غلباً لم يحط بملكهم ، بل بأدنى أرضهم ، ففرح بذلك مشركو مكة ، وحزن المسلمون ، فأخبرهم اللّه ووعدهم أن الروم ستغلب الفرس . { فِي بِضْعِ سِنِينَ } تسع ، أو ثمان ، ونحو ذلك ، مما لا يزيد على العشر ، ولا ينقص عن الثلاث ، وأن غلبة الفرس للروم ، ثم غلبة الروم للفرس ، كل ذلك بمشيئته وقدره ، ولهذا قال : { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } فليس الغلبة والنصر لمجرد وجود الأسباب ، وإنما هي لا بد أن يقترن بها القضاء والقدر . { وَيَوْمَئِذٍ } أي : يوم يغلب الروم الفرس ويقهرونهم { يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ } أي : يفرحون بانتصارهم على الفرس ، وإن كان الجميع كفاراً ، ولكن بعض الشر أهون من بعض ، ويحزن يومئذ المشركون . { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } الذي له العزة التي قهر بها الخلائق أجمعين ، يؤتي الملك مَنْ يشاء ، وينزع الملك ممَّن يشاء ، ويعز مَنْ يشاء ويذل مَنْ يشاء . { ٱلرَّحِيمُ } بعباده المؤمنين ، حيث قيّض لهم من الأسباب التي تسعدهم وتنصرهم ، ما لا يدخل في الحساب . { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } فتيقنوا ذلك ، واجزموا به ، واعلموا أنه لا بد من وقوعه . فلما نزلت هذه الآيات ، التي فيها هذا الوعد ، صدق بها المسلمون ، وكفر بها المشركون ، حتى تراهن بعض المسلمين وبعض المشركين على مدة سنين عينوها ، فلما جاء الأجل ، الذي ضربه اللّه ، انتصر الروم على الفرس ، وأجلوهم من بلادهم التي أخذوها منهم ، وتحقق وعد اللّه . وهذا من الأمور الغيبية التي أخبر بها اللّه قبل وقوعها ، ووجدت في زمان من أخبرهم اللّه بها ، من المسلمين والمشركين . { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أن ما وعد اللّه به حق ، فلذلك يوجد فريق منهم يكذبون بوعد الله ، ويكذبون آياته ، وهؤلاء الذين لا يعلمون أي : لا يعلمون بواطن الأشياء وعواقبها ، وإنما { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } فينظرون إلى الأسباب ، ويجزمون بوقوع الأمر الذي في رأيهم انعقدت أسباب وجوده ، ويتيقنون عدم الأمر الذي لم يشاهدوا له من الأسباب المقتضية لوجوده شيئاً ، فهم واقفون مع الأسباب ، غير ناظرين إلى مسببها ، المتصرف فيها . { وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } قد توجهت قلوبهم وأهواؤهم وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتها وحطامها ، فعملت لها وسعت ، وأقبلت بها وأدبرت ، وغفلت عن الآخرة ، فلا الجنة تشتاق إليها ، ولا النار تخافها وتخشاها ، ولا المقام بين يدي اللّه ولقائه يروعها ويزعجها ، وهذا علامة الشقاء ، وعنوان الغفلة عن الآخرة . ومن العجب أن هذا القسم من الناس ، قد بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا ، إلى أمر يحير العقول ويدهش الألباب . وأظهروا من العجائب الذرية والكهربائية ، والمراكب البرية والبحرية والهوائية ، ما فاقوا به وبرزوا ، وأعجبوا بعقولهم ، ورأوا غيرهم عاجزاً عمّا أقدرهم اللّه عليه ، فنظروا إليهم بعين الاحتقار والازدراء ، وهم مع ذلك ، أبلد الناس في أمر دينهم ، وأشدهم غفلة عن آخرتهم ، وأقلهم معرفة بالعواقب ، قد رآهم أهل البصائر النافذة ، في جهلهم يتخبطون ، وفي ضلالهم يعمهون ، وفي باطلهم يترددون . نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم ، أولئك هم الفاسقون . ثم نظروا إلى ما أعطاهم اللّه وأقدرهم عليه ، من الأفكار الدقيقة في الدنيا وظاهرها ، و [ ما ] حرموا من العقل العالي فعرفوا أن الأمر للّه ، والحكم له في عباده ، وإن هو إلا توفيقه وخذلانه ، فخافوا ربهم وسألوه أن يتم لهم ما وهبهم ، من نور العقول والإيمان ، حتى يصلوا إليه ، ويحلوا بساحته [ وهذه الأمور لو قارنها الإيمان وبنيت عليه لأثمرت الرُّقِيَّ العالي ، والحياة الطيبة ، ولكنّها لما بني كثير ، منها على الإلحاد لم تثمر إلا هبوط الأخلاق وأسباب الفناء والتدمير ] .