Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 15-21)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

سبأ قبيلة معروفة في أداني اليمن ، ومسكنهم بلدة يقال لها " مأرب " ، ومن نِعَم اللّه ولطفه بالناس عموماً ، وبالعرب خصوصاً ، أنه قص في القرآن أخبار المهلكين والمعاقبين ، ممن كان يجاور العرب ويشاهد آثاره ويتناقل الناس أخباره ، ليكون ذلك أدعى إلى التصديق ، وأقرب للموعظة فقال : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ } أي : محلهم الذي يسكنون فيه { آيَةٌ } والآية هنا : ما أدرَّ اللّه عليهم من النِّعَم ، وصرف عنهم من النقم ، الذي يقتضي ذلك منهم ، أن يعبدوا اللّه ويشكروه . ثم فسّر الآية بقوله : { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } وكان لهم واد عظيم ، تأتيه سيول كثيرة ، وكانوا بنوا سداً محكماً ، يكون مجمعاً للماء ، فكانت السيول تأتيه ، فيجتمع هناك ماء عظيم ، فيفرقونه على بساتينهم ، التي عن يمين ذلك الوادي وشماله . وتُغِلُّ لهم تلك الجنتان العظيمتان ، من الثمار ما يكفيهم ، ويحصل لهم به الغبطة والسرور ، فأمرهم اللّه بشكر نعمه التي أدرَّها عليهم من وجوه كثيرة ، منها : هاتان الجنتان اللتان غالب أقواتهم منهما . ومنها : أن اللّه جعل بلدهم بلدة طيبة ، لحسن هوائها ، وقلة وخمها ، وحصول الرزق الرغد فيها . ومنها : أن اللّه تعالى وعدهم - إن شكروه - أن يغفر لهم وَيرحمهم ، ولهذا قال : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } . ومنها : أن اللّه لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم إلى الأرض المباركة - الظاهر أنها : [ قرى صنعاء قاله غير واحدٍ من السلف ، وقيل : إنها ] الشام - هيأ لهم من الأسباب ما به يتيسر وصولهم إليها بغاية السهولة ، من الأمن ، وعدم الخوف ، وتواصل القرى بينهم وبينها ، بحيث لا يكون عليهم مشقة بحمل الزاد والمزاد . ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } أي : [ سيراً ] مقدراً يعرفونه ويحكمون عليه ، بحيث لا يتيهون عنه { لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } أي : مطمئنين في السير ، في تلك الليالي والأيام ، غير خائفين . وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم ، أن أمنهم من الخوف . فأعرضوا عن المُنْعِم ، وعن عبادته ، وبطروا النعمة ، وملوها ، حتى إنهم طلبوا وتمنوا ، أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى ، التي كان السير فيها متيسراً . { وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } بكفرهم باللّه وبنعمته ، فعاقبهم اللّه تعالى بهذه النعمة التي أطغتهم ، فأبادها عليهم ، فأرسل عليها سيل العرم ، أي : السيل المتوعر ، الذي خرب سدهم ، وأتلف جناتهم ، وخرَّب بساتينهم ، فتبدلت تلك الجنات ذات الحدائق المعجبة ، والأشجار المثمرة ، وصار بدلها أشجار لا نفع فيها ، ولهذا قال : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ } أي : شيء قليل من الأكل الذي لا يقع منهم موقعاً { خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } وهذا كله شجر معروف ، وهذا من جنس عملهم . فكما بدلوا الشكر الحسن بالكفر القبيح ، بدلوا تلك النعمة بما ذكر ، ولهذا قال : { ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } أي : وهل نجازي جزاء العقوبة - بدليل السياق - وإلاّ مَنْ كفر باللّه وبطر النعمة ؟ فلما أصابهم ما أصابهم تفرقوا وتمزقوا ، بعدما كانوا مجتمعين ، وجعلهم اللّه أحاديث يتحدث بهم ، وأسماراً للناس ، وكان يضرب بهم المثل ، فيقال : " تفرقوا أيدي سبأ " فكل أحد يتحدث بما جرى لهم ، ولكن لا ينتفع بالعبرة فيهم إلا من قال اللّه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } صبّار على المكاره والشدائد ، يتحملها لوجه اللّه ، ولا يتسخطها بل يصبر عليها . شكور لنعمة اللّه تعالى يُقِرُّ بها ويعترف ، ويثني على مَنْ أولاها ، ويصرفها في طاعته . فهذا إذا سمع بقصتهم ، وما جرى منهم وعليهم ، عرف بذلك أن تلك العقوبة جزاء لكفرهم نعمة اللّه ، وأن من فعل مثلهم فُعِلَ به كما فعل بهم ، وأن شكر اللّه تعالى حافظ للنعمة ، دافع للنقمة ، وأن رسل اللّه صادقون فيما أخبروا به ، وأن الجزاء حق ، كما رأى أنموذجه في دار الدنيا . ثم ذكر أن قوم سبأ من الذين صدَّق عليهم إبليس ظنه ، حيث قال لربه : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82 - 83 ] . وهذا ظن من إبليس ، لا يقين ، لأنه لا يعلم الغيب ، ولم يأته خبر من اللّه ، أنه سيغويهم أجمعين ، إلاّ مَنْ استثنى ، فهؤلاء وأمثالهم ، ممن صدق عليه إبليس ظنه ، ودعاهم وأغواهم ، { فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ممن لم يكفر بنعمة اللّه ، فإنه لم يدخل تحت ظن إبليس . ويحتمل أن قصة سبأ انتهت عند قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } . ثم ابتدأ فقال : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ } أي : على جنس الناس ، فتكون الآية عامة في كل مَن اتبعه . ثم قال تعالى : { وَمَا كَانَ لَهُ } أي : لإبليس { عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ } أي : تسلط وقهر ، وقسر على ما يريده منهم ، ولكن حكمة اللّه تعالى اقتضت تسليطه وتسويله لبني آدم . { لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } أي : ليقوم سوق الامتحان ، ويعلم به الصادق من الكاذب ، ويعرف مَنْ كان إيمانه صحيحاً يثبت عند الامتحان والاختبار وإلقاء الشبه الشيطانية ، ممن إيمانه غير ثابت ، يتزلزل بأدنى شبهة ، ويزول بأقل داع يدعوه إلى ضده ، فاللّه تعالى جعله امتحاناً ، يمتحن به عباده ، ويظهر الخبيث من الطيب . { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ } يحفظ العباد ، ويحفظ عليهم أعمالهم ، ويحفظ تعالى جزاءها ، فيوفيهم إياها كاملة موفرة .