Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 1-12)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا قسم من اللّه تعالى بالقرآن الحكيم ، الذي وصفه الحكمة ، وهي وضع كل شيء موضعه ، وضع الأمر والنهي في الموضع اللائق بهما ، ووضع الجزاء بالخير والشر في محلهما اللائق بهما ، فأحكامه الشرعية والجزائية كلها مشتملة على غاية الحكمة . ومن حكمة هذا القرآن ، أنه يجمع بين ذكر الحكم وحكمته ، فينبه العقول على المناسبات والأوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها . { إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } هذا المقسم عليه ، وهو رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وإنك من جملة المرسلين ، فلست ببدع من الرسل ، وأيضاً فجئت بما جاء به الرسل ، من الأصول الدينية ، وأيضاً فمن تأمل أحوال المرسلين وأوصافهم ، وعرف الفرق بينهم وبين غيرهم ، عرف أنك من خيار المرسلين ، بما فيك من الصفات الكاملة ، والأخلاق الفاضلة . ولا يخفى ما بين المقسم به ، وهو القرآن الحكيم ، وبين المقسم عليه ، [ وهو ] رسالة الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم ، من الاتصال ، وأنه لو لم يكن لرسالته دليل ولا شاهد إلاّ هذا القرآن الحكيم ، لكفى به دليلاً وشاهداً على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، بل القرآن العظيم أقوى الأدلة المتصلة المستمرة على رسالة الرسول ، فأدلة القرآن كلها أدلة لرسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم . ثم أخبر بأعظم أوصاف الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، الدالة على رسالته ، وهو أنه { عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } معتدل ، موصل إلى اللّه وإلى دار كرامته ، وذلك الصراط المستقيم ، مشتمل على أعمال ، وهي الأعمال الصالحة ، المصلحة للقلب والبدن ، والدنيا والآخرة ، والأخلاق الفاضلة ، المزكية للنفس ، المطهرة للقلب ، المنمية للأجر ، فهذا الصراط المستقيم ، الذي هو وصف الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ووصف دينه الذي جاء به ، فتأمل جلالة هذا القرآن الكريم ، كيف جمع بين القسم بأشرف الأقسام ، على أجل مقسم عليه ، وخبر اللّه وحده كاف ، ولكنه تعالى أقام من الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة في هذا الموضع على صحة ما أقسم عليه ، من رسالة رسوله ما نبهنا عليه ، وأشرنا إشارة لطيفة لسلوك طريقه ، وهذا الصراط المستقيم { تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ } فهو الذي أنزل به كتابه ، وأنزله طريقاً لعباده ، موصلاً لهم إليه ، فحماه بعزته عن التغيير والتبديل ، ورحم به عباده رحمة اتصلت بهم ، حتى أوصلتهم إلى دار رحمته ، ولهذا ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين : العزيز ، الرحيم . فلما أقسم تعالى على رسالته وأقام الأدلة عليها ، ذكر شدة الحاجة إليها واقتضاء الضرورة لها فقال : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } وهم العرب الأميون ، الذين لم يزالوا خالين من الكتب ، عادمين الرسل ، قد عمتهم الجهالة ، وغمرتهم الضلالة ، وأضحكوا عليهم وعلى سفههم عقول العالمين ، فأرسل اللّه إليهم رسولاً من أنفسهم ، يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، فينذر العرب الأميين ، ومَنْ لحق بهم من كل أمي ، ويذكِّر أهل الكتب بما عندهم من الكتب ، فنعمة اللّه به على العرب خصوصاً ، وعلى غيرهم عموماً . ولكن هؤلاء الذين بعثت فيهم لإنذارهم بعدما أنذرتهم ، انقسموا قسمين : قسم رد لما جئت به ، ولم يقبل النذارة ، وهم الذين قال اللّه فيهم { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } أي : نفذ فيهم القضاء والمشيئة ، أنهم لا يزالون في كفرهم وشركهم ، وإنما حق عليهم القول بعد أن عُرض عليهم الحق فرفضوه ، فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم . وذكر الموانع من وصول الإيمان لقلوبهم ، فقال : { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } وهي جمع " غل " و " الغل " ما يغل به العنق ، فهو للعنق بمنزلة القيد للرجل ، وهذه الأغلال التي في الأعناق ، عظيمة قد وصلت إلى أذقانهم ورُفعت رؤوسهم إلى فوق ، { فَهُم مُّقْمَحُونَ } أي : رافعو رؤوسهم من شدة الغل الذي في أعناقهم ، فلا يستطيعون أن يخفضوها . { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } أي : حاجزاً يحجزهم عن الإيمان ، { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } قد غمرهم الجهل والشقاء من جميع جوانبهم ، فلم تفد فيهم النذارة . { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } وكيف يؤمن مَنْ طبع على قلبه ، ورأى الحق باطلاً والباطل حقاً ؟ ! والقسم الثاني : الذين قبلوا النذارة ، وقد ذكرهم بقوله : { إِنَّمَا تُنذِرُ } أي : إنما تنفع نذارتك ، ويتعظ بنصحك { مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } [ أي : ] مَنْ قصده اتباع الحق وما ذكر به ، { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } أي : مَنْ اتصف بهذين الأمرين ، القصد الحسن في طلب الحق ، وخشية اللّه تعالى ، فهم الذين ينتفعون برسالتك ، ويزكون بتعليمك ، وهذا الذي وفق لهذين الأمرين { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } لذنوبه ، { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } لأعماله الصالحة ، ونيته الحسنة . { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ } أي : نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال ، { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ } من الخير والشر ، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم ، { وَآثَارَهُمْ } وهي آثار الخير وآثار الشر ، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم ، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، فكل خير عمل به أحد من الناس ، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه ، أو أمره بالمعروف ، أو نهيه عن المنكر ، أو علم أودعه عند المتعلمين ، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته ، أو عمل خيراً ، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان ، فاقتدى به غيره ، أو عمل مسجداً ، أو محلاً من المحال التي يرتفق بها الناس ، وما أشبه ذلك ، فإنها من آثاره التي تكتب له ، وكذلك عمل الشر . ولهذا : " مَنْ سنَّ سُنّة حسنة فله أجرها وأجرُ مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة ، ومَنْ سنَّ سُنّة سيئة فعليه وزرها ووزر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة " وهذا الموضع ، يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى اللّه والهداية إلى سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك ، ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمام فيه ، وأنه أسفل الخليقة ، وأشدهم جرماً ، وأعظمهم إثماً . { وَكُلَّ شيْءٍ } من الأعمال والنيّات وغيرها { أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } أي : كتاب هو أم الكتب وَإليه مرجع الكتب ، التي تكون بأيدي الملائكة ، وهو اللوح المحفوظ .