Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 37, Ayat: 83-113)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ } إلى آخر القصة . أي : وإن من شيعة نوح عليه السلام ، ومَنْ هو على طريقته في النبوة والرسالة ، ودعوة الخلق إلى اللّه ، وإجابة الدعاء ، إبراهيم الخليل عليه السلام . { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } من الشرك والشبه ، والشهوات المانعة من تصور الحق والعمل به ، وإذا كان قلب العبد سليماً ، سلم من كل شر ، وحصل له كل خير ، ومن سلامته أنه سليم من غش الخَلْقَ وحسدهم ، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق ، ولهذا نصح الخلق في اللّه ، وبدأ بأبيه وقومه فقال : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } هذا استفهام بمعنى الإنكار ، وإلزام لهم بالحجة . { أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ } أي : أتعبدون [ من دونه ] آلهة كذباً ، ليست بآلهة ، ولا تصلح للعبادة ، فما ظنكم برب العالمين أن يفعل بكم وقد عبدتم معه غيره ؟ وهذا ترهيب لهم بالجزاء بالعقاب على الإقامة على شركهم . وما الذي ظننتم برب العالمين ، من النقص حتى جعلتم له أنداداً وشركاء . فأراد عليه السلام أن يكسر أصنامهم ويتمكن من ذلك ، فانتهز الفرصة في حين غفلة منهم لما ذهبوا إلى عيد من أعيادهم ، فخرج معهم { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي ٱلنُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } . في الحديث الصحيح : " لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات : قوله { إِنِّي سَقِيمٌ } وقوله { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا } [ الأنبياء : 36 ] وقوله عن زوجته " إنها أختي " " ، والقصد أنه تخلف عنهم ، ليتم له الكيد بآلهتهم { فَـ } لهذا { تَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } فلما وجد الفرصة ، { فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ } أي : أسرع إليها على وجه الخفية والمراوغة ، { فَقَالَ } متهكماً بها { أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ } أي : فكيف يليق أن تُعبد ، وهي أنقص من الحيوانات التي تأكل أو تكلم ؟ فهذه جماد لا تأكل ولا تكلم . { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ } أي : جعل يضربها بقوته ونشاطه ، حتى جعلها جذاذاً ، إلا كبيراً لهم ، لعلهم إليه يرجعون ، { فَأَقْبَلُوۤاْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } أي : يسرعون ويهرعون ، أي : يريدون أن يوقعوا به ، بعدما بحثوا وقالوا : { مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 59 ] . وقيل لهم : { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } [ الأنبياء : 60 ] يقول : { وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } [ الأنبياء : 57 ] فوبخوه ولاموه ، فقال : { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ * فَرَجَعُوۤاْ إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوۤاْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ ٱلظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ } الآية [ الأنبياء : 63 - 66 ] . و { قَالَ } هنا : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } أي : تنحتونه بأيديكم وتصنعونه ؟ فكيف تعبدونهم ، وأنتم الذين صنعتموهم ، وتتركون الإخلاص للّه ؟ الذي { خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً } أي : عالياً مرتفعاً ، وأوقدوا فيها النار { فَأَلْقُوهُ فِي ٱلْجَحِيمِ } جزاء على ما فعل من تكسير آلهتهم . { فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } ليقتلوه أشنع قتلة { فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَسْفَلِينَ } رد اللّه كيدهم في نحورهم ، وجعل النار على إبراهيم برداً وسلاماً . { وَ } لما فعلوا فيه هذا الفعل ، وأقام عليهم الحجة ، وأعذر منهم ، { قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي } أي : مهاجر إليه ، قاصد إلى الأرض المباركة أرض الشام . { سَيَهْدِينِ } يدلني إلى ما فيه الخير لي ، من أمر ديني ودنياي ، وقال في الآية الأخرى : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً } [ مريم : 48 ] . { رَبِّ هَبْ لِي } ولداً يكون { مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } وذلك عند ما أيس من قومه ولم يرَ فيهم خيراً ، دعا اللّه أن يهب له غلاماً صالحاً ينفع اللّه به في حياته وبعد مماته ، فاستجاب اللّه له وقال : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ } وهذا إسماعيل عليه السلام بلا شك ، فإنه ذكر بعده البشارة [ بإسحاق ، ولأن اللّه تعالى قال في بشراه بإسحاق { فَبَشَّرْنَاهَا ] بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] فدلّ على أن إسحاق غير الذبيح ، ووصف اللّه إسماعيل عليه السلام بالحلم ، وهو يتضمن الصبر ، وحسن الخلق ، وسعة الصدر ، والعفو عمن جنى . { فَلَمَّا بَلَغَ } الغلام { مَعَهُ ٱلسَّعْيَ } أي : أدرك أن يسعى معه ، وبلغ سناً يكون في الغالب أحب ما يكون لوالديه ، قد ذهبت مشقته ، وأقبلت منفعته ، فقال له إبراهيم عليه السلام : { إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } أي : قد رأيت في النوم والرؤيا ، أن اللّه يأمرني بذبحك ، ورؤيا الأنبياء وحي ، { فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ } فإن أمر اللّه تعالى لا بد من تنفيذه ، { قَالَ } إسماعيل صابراً محتسباً ، مرضياً لربه ، وباراً بوالده : { يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ } أي : [ امض ] لما أمرك اللّه { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } أخبر أباه أنه موطن نفسه على الصبر ، وقرن ذلك بمشيئة اللّه تعالى ، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة اللّه تعالى . { فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي : إبراهيم وابنه إسماعيل ، جازماً بقتل ابنه وثمرة فؤاده ، امتثالاً لأمر ربه ، وخوفاً من عقابه ، والابن قد وطَّن نفسه على الصبر ، وهانت عليه في طاعة ربه ، ورضا والده ، { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي : تلِّ إبراهيم إسماعيل على جبينه ، ليضجعه فيذبحه ، وقد انكب لوجهه لئلا ينظر وقت الذبح إلى وجهه . { وَنَادَيْنَاهُ } في تلك الحال المزعجة ، والأمر المدهش : { أَن يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ } أي : قد فعلت ما أمرت به ، فإنك وطَّنت نفسك على ذلك ، وفعلت كل سبب ، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلقه ، { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } في عبادتنا ، المقدمين رضانا على شهوات أنفسهم . { إِنَّ هَـٰذَا } الذي امتحنا به إبراهيم عليه السلام { لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ } أي : الواضح ، الذي تبين به صفاء إبراهيم ، وكمال محبته لربه وخلته ، فإن إسماعيل عليه السلام لما وهبه اللّه لإبراهيم ، أحبه حباً شديداً ، وهو خليل الرحمن ، والخلة أعلى أنواع المحبة ، وهو منصب لا يقبل المشاركة ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب ، فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل ، أراد تعالى أن يصفي وُدَّه ويختبر خلته ، فأمره أن يذبح مَنْ زاحم حبُّه حبَّ ربه ، فلما قدّم حب اللّه ، وآثره على هواه ، وعزم على ذبحه ، وزال ما في القلب من المزاحم ، بقي الذبح لا فائدة فيه ، فلهذا قال : { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } أي : صار بدله ذبح من الغنم عظيم ، ذبحه إبراهيم ، فكان عظيماً من جهة أنه كان فداء لإسماعيل ، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة ، ومن جهة أنه كان قرباناً وسُنّة إلى يوم القيامة . { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } أي : وأبقينا عليه ثناءً صادقاً في الآخرين ، كما كان في الأولين ، فكل وقت بعد إبراهيم عليه السلام ، فإنه [ فيه ] محبوب معظم مثني عليه . { سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } أي : تحيته عليه كقوله : { قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَىٰ } [ النمل : 59 ] . { كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } في عبادة اللّه ، ومعاملة خلقه ، أن نفرج عنهم الشدائد ، ونجعل لهم العاقبة والثناء الحسن . { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ } بما أمر اللّه بالإيمان به ، الذين بلغ بهم الإيمان إلى درجة اليقين ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } [ الأنعام : 75 ] . { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } هذه البشارة الثانية بإسحاق ، الذي من ورائه يعقوب ، فبشر بوجوده وبقائه ، ووجود ذريته ، وكونه نبياً من الصالحين ، فهي بشارات متعددة . { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ } أي : أنزلنا عليهما البركة ، التي هي النمو والزيادة في علمهما وعملهما وذريتهما ، فنشر اللّه من ذريتهما ثلاث أُمم عظيمة : أمة العرب من ذرية إسماعيل ، وأُمة بني إسرائيل ، وأمة الروم من ذرية إسحاق . { وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } أي : منهم الصالح والطالح ، والعادل والظالم الذي تبين ظلمه بكفره وشركه ، ولعل هذا من باب دفع الإيهام ، فإنه لما قال : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ } اقتضى ذلك البركة في ذريتهما ، وأن من تمام البركة ، أن تكون الذرية كلهم محسنين ، فأخبر اللّه تعالى أن منهم محسناً وظالماً ، واللّه أعلم .