Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 117-121)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أي : ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثاً ، أي : أوثاناً وأصناماً ، مسميات بأسماء الإناث ، كـ " العزى " و " مناة " ونحوهما ، ومن المعلوم أن الاسم دال على المسمى . فإذا كانت أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة ، دلّ ذلك على نقص المسميات بتلك الأسماء ، وفقدها لصفات الكمال ، كما أخبر الله تعالى في غير موضع من كتابه ، أنها لا تخلق ولا ترزق ، ولا تدفع عن عابديها ، بل ولا عن نفسها نفعاً ولا ضراً ، ولا تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء ، وليس لها أسماع ولا أبصار ولا أفئدة ، فكيف يُعبد مَنْ هذا وصفه ، ويُترك الإخلاص لمن له الأسماء الحسنى والصفات العليا والحمد والكمال ، والمجد ، والجلال ، والعز ، والجمال ، والرحمة ، والبر ، والإحسان ، والانفراد بالخلق والتدبير ، والحكمة العظيمة في الأمر والتقدير ؟ ! ! هل هذا إلاّ من أقبح القبيح ، الدال على نقص صاحبه ، وبلوغه من الخسة والدناءة أدنى ما يتصوره متصور ، أو يصفه واصف ؟ ! ! ومع ذلك فعبادتهم إنما صورتها فقط لهذه الأوثان الناقصة . وبالحقيقة ما عبدوا غير الشيطان ، الذي هو عدوهم ، الذي يريد إهلاكهم ، ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه ، الذي هو في غاية البعد من الله ، لعنه الله وأبعده عن رحمته ، فكما أبعده الله من رحمته يسعى في إبعاد العباد عن رحمة الله . { إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [ فاطر : 6 ] ولهذا أخبر الله عن سعيه في إغواء العباد ، وتزيين الشر لهم والفساد ، وأنه قال لربه مقسما : { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } أي : مقدراً . علم اللعين أنه لا يقدر على إغواء جميع عباد الله ، وأن عباد الله المخلصين ليس له عليهم سلطان ، وإنما سلطانه على مَنْ تولاه ، وآثر طاعته على طاعة مولاه . وأقسم في موضع آخر ليغوينهم { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 39 - 40 ] . فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به ، أخبر الله تعالى بوقوعه بقوله : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ سبأ : 20 ] . وهذا النصيب المفروض الذي أقسم لله إنه يتخذهم ، ذكر ما يريد بهم ، وما يقصده لهم بقوله : { وَلأُضِلَّنَّهُمْ } أي : عن الصراط المستقيم ، ضلالاً في العلم ، وضلالاً في العمل . { وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } أي : مع الإضلال ، لأمنينهم أن ينالوا ما ناله المهتدون . وهذا هو الغرور بعينه ، فلم يقتصر على مجرد إضلالهم حتى زين لهم ما هم فيه من الضلال . وهذا زيادة شر إلى شرهم ، حيث عملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة ، وحسبوا أنها موجبة للجنة ، واعتبر ذلك باليهود والنصارى ونحوهم ، فإنهم كما حكى الله عنهم ، { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } [ البقرة : 111 ] { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [ الأنعام : 108 ] { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 103 - 104 ] الآية . وقال تعالى عن المنافقين إنهم يقولون يوم القيامة للمؤمنين : { أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } [ الحديد : 14 ] . وقوله : { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلأَنْعَٰمِ } أي : بتقطيع آذانها ، وذلك كالبحيرة ، والسائبة والوصيلة ، والحام ، فنبه ببعض ذلك على جميعه . وهذا نوع من الإضلال يقتضي تحريم ما أحل الله ، أو تحليل ما حرّم الله ، ويلتحق بذلك من الاعتقادات الفاسدة والأحكام الجائرة ، ما هو من أكبر الإضلال . { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ } وهذا يتناول تغيير الخلقة الظاهرة بالوشم ، والوشر ، والنمص ، والتفلج للحسن ، ونحو ذلك ، مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن . وذلك يتضمن التسخط من خلقته ، والقدح في حكمته ، واعتقاد أن ما يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن ، وعدم الرضا بتقديره وتدبيره ، ويتناول أيضاً تغيير الخلقة الباطنة ، فإن الله تعالى خلق عباده حنفاء ، مفطورين على قبول الحق وإيثاره ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل ، وزينت لهم الشر والشرك ، والكفر والفسوق والعصيان . فإن كل مولود يولد على الفطرة ، ولكن أبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه ، ونحو ذلك مما يغيرون به ما فطر الله عليه العباد ، من توحيده ، وحبه ومعرفته ، فافترستهم الشياطين في هذا الموضع افتراس السبع والذئاب للغنم المنفردة . لولا لطف الله وكرمه بعباده المخلصين لجرى عليهم ما جرى على هؤلاء المفتونين ، وهذا الذي جرى عليهم من توليهم عن ربهم وفاطرهم ، وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه ، فخسروا الدنيا والآخرة ، ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة ، ولهذا قال : { وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَٰنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } وأي خسار أبين وأعظم ممن خسر دينه ودنياه ، وأوبقته معاصيه وخطاياه ؟ ! ! فحصل له الشقاء الأبدي ، وفاته النعيم السرمدي . كما أن مَنْ تولى مولاه وآثر رضاه ، ربح كل الربح ، وأفلح كل الفلاح ، وفاز بسعادة الدارين ، وأصبح قرير العين ، فلا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، اللهم تولنا فيمن توليت ، وعافنا فيمن عافيت . ثم قال : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ } أي : يعد الشيطان من يسعى في إضلالهم . والوعد يشمل حتى الوعيد كما قال تعالى : { ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ } [ البقرة : 268 ] . فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل الله افتقروا ، ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل وغيره ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } الآية [ آل عمران : 175 ] . ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله بكل ما يمكن وما لا يمكن ، مما يدخله في عقولهم حتى يكسلوا عن فعل الخير ، وكذلك يمنيهم الأماني الباطلة التي هي عند التحقيق كالسراب الذي لا حقيقة له ، ولهذا قال : { وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً * أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي : مَنْ انقاد للشيطان ، وأعرض عن ربه ، وصار من أتباع إبليس وحزبه ، مستقرهم النار . { وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } أي : مخلصاً ولا ملجأً ، بل هم خالدون فيها أبد الآباد .