Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 153-161)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على وجه العناد والاقتراح ، وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم . وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل ، وهذا غاية الظلم منهم والجهل ، فإن الرسول بشر عبد مدبر ، ليس في يده من الأمر شيء ، بل الأمر كله لله ، وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده ، كما قال تعالى عن الرسول ، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم ، { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 93 ] . وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقاً ، مجرد دعوى لا دليل عليها ، ولا مناسبة ، بل ولا شبهة ، فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب نزل مفرقاً فلا تؤمنوا به ولا تصدقوه ؟ بل نزول هذا القرآن مفرقاً بحسب الأحوال ، مما يدل على عظمته واعتناء الله بمن أنزل عليه ، كما قال تعالى : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [ الفرقان : 32 - 33 ] . فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم ، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به ، من سؤالهم له رؤية الله عياناً ، واتخاذهم العجل إلهاً يعبدونه ، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يره غيرهم . ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم وهو التوراة ، حتى رفع الطور من فوق رؤوسهم ، وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا أسقط عليهم ، فقبلوا ذلك على وجه الإغماض ، والإيمان الشبيه بالإيمان الضروري . ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية التي أمروا بدخولها سجداً مستغفرين ، فخالفوا القول والفعل . ومن اعتداء مَنْ اعتدى منهم في السبت ، فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة . وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم ، فنبذوه وراء ظهورهم ، وكفروا بآيات الله ، وقتلوا رسله بغير حق . ومن قولهم : إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه ، والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه ، بل شُبِّه لهم غيره ، فقتلوا غيره وصلبوه . وادعائهم أن قلوبهم غلف لا تفقه ما تقول لهم ولا تفهمه ، وبصدهم الناس عن سبيل الله ، فصدوهم عن الحق ، ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي . وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه ، والتشديد فيه . فالذين فعلوا هذه الأفاعيل ، لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمداً أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة الخصم المبطل ، وهو أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل ما جعله شبهة له ولغيره في رد الحق ، أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة ، ما هو من أقبح ما صدر منه ، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس ، وأن له مقدمات يُجعل هذا معها . وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقابل بمثله ، أو ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به ، ليكتفى بذلك شرهم ، وينقمع باطلهم ، وكل حجة سلكوها في تقريرهم لنبوة مَنْ آمنوا به ، فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها ، دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم . ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة ، لم يبسطها في هذا الموضع ، بل أشار إليها ، وأحال على مواضعها ، وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها . وقوله : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } يحتمل أن الضمير هنا في قوله : { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعود إلى أهل الكتاب ، فيكون على هذا كل كتابي يحضره الموت ، ويعاين الأمر حقيقة ، فإنه يؤمن بعيسى عليه السلام ، ولكنه إيمان لا ينفع ، إيمان اضطرار ، فيكون مضمون هذا التهديد لهم والوعيد ، وأن لا يستمروا على هذه الحال التي سيندمون عليها قبل مماتهم ، فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم ؟ ! ! ويحتمل أن الضمير في قوله : { قَبْلَ مَوْتِهِ } راجع إلى عيسى عليه السلام ، فيكون المعنى : وما من أحدٍ من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالمسيح عليه السلام قبل موت المسيح ، وذلك يكون عند اقتراب الساعة وظهور علاماتها الكبار . فإنه تكاثرت الأحاديث الصحيحة في نزوله عليه السلام في آخر هذه الأمة . يقتل الدجال ، ويضع الجزية ، ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين . ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيداً ، يشهد عليهم بأعمالهم ، وهل هي موافقة لشرع الله أم لا ؟ وحينئذ لا يشهد إلا ببطلان كل ما هم عليه ، مما هو مخالف لشريعة القرآن وَلِمَا دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، علمنا بذلك ، لِعِلْمِنَا بكمال عدالة المسيح عليه السلام وصدقه ، وأنه لا يشهد إلا بالحق ، إلا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق ، وما عداه فهو ضلال وباطل . ثم أخبر تعالى أنه حرم على أهل الكتاب كثيراً من الطيبات التي كانت حلالاً عليهم وهذا تحريم عقوبة ، بسبب ظلمهم واعتدائهم ، وصدهم الناس عن سبيل الله ، ومنعهم إياهم من الهدى ، وبأخذهم الربا وقد نهوا عنه ، فمنعوا المحتاجين ممن يبايعونه عن العدل ، فعاقبهم الله من جنس فعلهم ، فمنعهم من كثير من الطيبات التي كانوا بصدد حلها ، لكونها طيبة ، وأما التحريم الذي على هذه الأمة ، فإنه تحريم تنزيه لهم عن الخبائث التي تضرهم في دينهم ودنياهم .