Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 77-81)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كان المسلمون - إذ كانوا بمكة - مأمورين بالصلاة والزكاة ، أي : مواساة الفقراء ، لا الزكاة المعروفة ذات النصب والشروط ، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة ، ولم يؤمروا بجهاد الأعداء ، لعدة فوائد : منها : أن من حكمة الباري تعالى أن يشرع لعباده الشرائع على وجه لا يشق عليهم ويبدأ بالأهم فالأهم ، والأسهل فالأسهل . ومنها : أنه لو فرض عليهم القتال - مع قلة عَدَدِهِم وعُدَدِهِم وكثرة أعدائهم - لأدّى ذلك إلى اضمحلال الإسلام ، فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها ولغير ذلك من الحِكَم . وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال ، غير اللائق فيها ذلك ، وإنما اللائق فيها القيام بما أمروا به في ذلك الوقت من التوحيد والصلاة والزكاة ونحو ذلك ، كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } [ النساء : 66 ] فلما هاجروا إلى المدينة ، وقوي الإسلام ، كُتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك ، فقال فريق من الذين يستعجلون القتال قبل ذلك ، خوفاً من الناس وضعفاً وخوراً : { رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ } ؟ وفي هذا تضجرهم ، واعتراضهم على الله ، وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال ، التسليم لأمر الله ، والصبر على أوامره ، فعكسوا الأمر المطلوب منهم فقالوا : { لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي : هلاّ أخرت فرض القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر ، وهذه الحال كثيراً ما تعرض لمن هو غير رزين واستعجل في الأمور قبل وقتها ، فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت حلولها ، ولا ينوء بحملها ، بل يكون قليل الصبر . ثم إن الله وعظهم عن هذه الحال التي فيها التخلف عن القتال فقال : { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ } أي : التمتع بلذات الدنيا وراحتها قليل ، فتحمل الأثقال في طاعة الله في المدة القصيرة مما يسهل على النفوس ويخف عليها لأنها إذا علمت أن المشقة التي تنالها لا يطول لبثها ، هان عليها ذلك ، فكيف إذا وازنت بين الدنيا والآخرة ، وأن الآخرة خير منها ، في ذاتها ، ولذاتها وزمانها ، فذاتها - كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه - " أن موضع سوط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها " ولذاتها صافية عن المكدرات ، بل كل ما خطر بالبال أو دار في الفكر من تصور لذة ، فلذة الجنة فوق ذلك كما قال تعالى : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] . وقال الله على لسان نبيه : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " . وأما لذات الدنيا فإنها مشوبة بأنواع التنغيص ، الذي لو قوبل بين لذاتها وما يقترن بها من أنواع الآلام ، والهموم والغموم ، لم يكن لذلك نسبة بوجه من الوجوه . وأما زمانها ، فإن الدنيا منقضية ، وعمر الإنسان بالنسبة إلى الدنيا شيء يسير ، وأما الآخرة فإنها دائمة النعيم ، وأهلها خالدون فيها ، فإذا فكّر العاقل في هاتين الدارين ، وتصور حقيقتهما حق التصور ، عرف ما هو أحق بالإيثار ، والسعي له ، والاجتهاد لطلبه ، ولهذا قال : { وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ } أي : اتقى الشرك ، وسائر المحرمات . { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي : فسعيكم للدار الآخرة ، ستجدونه كاملاً موفراً غير منقوص منه شيئاً . ثم أخبر أنه لا يغني حذر عن قدر ، وأن القاعد لا يدفع عنه قعوده شيئاً ، فقال : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ } أي : في أي زمان ، وأي مكان . { وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } أي : قصور منيعة ، ومنازل رفيعة ، وكل هذا حث على الجهاد في سبيل الله تارة بالترغيب في فضله وثوابه ، وتارة بالترهيب من عقوبة تركه ، وتارة بالإخبار أنه لا ينفع القاعدين قعودُهم ، وتارة بتسهيل الطريق في ذلك وقصرها . ثم قال : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً * مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً * مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } يخبر تعالى عن الذين لا يعلمون المعرضين عمّا جاءت به الرسل ، المعارضين لهم ، أنهم إذا جاءتهم حسنة ، أي : خصب وكثرة أموال ، وتوفر أولاد وصحة ، قالوا : { هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } وأنهم إن أصابتهم سيئة ، أي : جدب ، وفقر ، ومرض وموت أولاد وأحباب قالوا : { هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ } أي : بسبب ما جئتنا به يا محمد ، تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما تطير أمثالهم برسل الله ، كما أخبر الله عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] . وقال قوم صالح : { قَالُواْ ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ } [ النمل : 47 ] . وقال قوم ياسين لرسلهم : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ } الآية [ يس : 18 ] . فلما تشابهت قلوبهم بالكفر تشابهت أقوالهم وأعمالهم . وهكذا كل مَنْ نسب حصول الشر أو زوال الخير لما جاءت به الرسل أو لبعضه ، فهو داخل في هذا الذم الوخيم . قال الله في جوابهم : { قُلْ كُلٌّ } أي : من الحسنة والسيئة ، والخير والشر . { مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } أي : بقضائه وقدره وخلقه . { فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ } أي : الصادر منهم تلك المقالة الباطلة . { لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } أي : لا يفهمون حديثاً بالكلية ، ولا يقربون من فهمه ، أو لا يفهمون منه إلا فهماً ضعيفاً ، وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم وفقههم عن الله وعن رسوله ، وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم . وفي ضمن ذلك مدح من يفهم عن الله وعن رسوله ، والحث على ذلك ، وعلى الأسباب المعينة على ذلك ، من الإقبال على كلامهما وتدبره ، وسلوك الطرق الموصلة إليه . فلو فقهوا عن الله لعلموا أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره ، لا يخرج منها شيء عن ذلك . وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام ، لا يكونون سبباً لشر يحدث ، هم ولا ما جاؤوا به ، لأنهم بعثوا بصلاح الدنيا والآخرة والدين . ثم قال تعالى : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } أي : في الدين والدنيا { فَمِنَ ٱللَّهِ } هو الذي مَنَّ بها ويسرها بتيسير أسبابها . { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ } في الدين والدنيا { فَمِن نَّفْسِكَ } أي : بذنوبك وكسبك ، وما يعفو الله عنه أكثر . فالله تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه ، وأمرهم بالدخول لبره وفضله ، وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله ، فإذا فعلها العبد فلا يلومن إلا نفسه فإنه المانع لنفسه ، عن وصول فضل الله وبره . ثم أخبر عن عموم رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } على أنك رسول الله حقاً بما أيدك بنصره ، والمعجزات الباهرة ، والبراهين الساطعة ، فهي أكبر شهادة على الإطلاق ، كما قال تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 19 ] فإذا علم أن الله تعالى ، كامل العلم ، تام القدرة ، عظيم الحكمة ، وقد أيد الله رسوله بما أيده ، ونصره نصراً عظيماً ، تيقن بذلك أنه رسول الله ، وإلا فلو تقول عليه بعض الأقاويل ، لأخذ منه باليمين ، ثم لقطع منه الوتين . { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ وَٱللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } . أي : كل مَنْ أطاع رسول الله في أوامره ونواهيه { فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } تعالى ، لكونه لا يأمر ولا ينهى إلا بأمر الله وشرعه ، ووحيه وتنزيله ، وفي هذا عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله أمر بطاعته مطلقاً ، فلولا أنه معصوم في كل ما يُبَلِّغ عن الله ، لم يأمر بطاعته مطلقاً ، ويمدح على ذلك . وهذا من الحقوق المشتركة فإن الحقوق ثلاثة : حق لله تعالى ، لا يكون لأحد من الخلق ، وهو عبادة الله والرغبة إليه ، وتوابع ذلك . وقسم مختص بالرسول ، وهو التعزير والتوقير والنصرة . وقسم مشترك ، وهو الإيمان بالله ورسوله ، ومحبتهما وطاعتهما كما جمع الله بين هذه الحقوق في قوله : { لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفتح : 9 ] . فمَنْ أطاع الرسول فقد أطاع الله ، وله من الثواب والخير ما رتب على طاعة الله { وَمَن تَوَلَّىٰ } عن طاعة الله ورسوله ، فإنه لا يضر إلا نفسه ، ولا يضر الله شيئاً { فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي : تحفظ أعمالهم وأحوالهم ، بل أرسلناك مبلغاً ومبيناً وناصحاً ، وقد أديت وظيفتك ، ووجب أجرك على الله ، سواء اهتدوا أم لم يهتدوا . كما قال تعالى : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } الآية [ الغاشية : 21 - 22 ] . ولا بد أن تكون طاعة الله ورسوله ظاهراً وباطناً ، في الحضرة والمغيب . فأما مَنْ يظهر في الحضرة والطاعة والالتزام ، فإذا خلا بنفسه أو أبناء جنسه ، ترك الطاعة وأقبل على ضدها ، فإن الطاعة التي أظهرها غير نافعة ولا مفيدة ، وقد أشبه مَنْ قال الله فيهم : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } أي يظهرون الطاعة إذا كانوا عندك { فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ } أي : خرجوا وخلوا في حالة لا يطلع فيها عليهم { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ } أي بيتوا ودبروا غير طاعتك ولا ثم إلاَّ المعصية . وفي قوله { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ } دليل على أن الأمر الذي استقروا عليه غير الطاعة لأن التبييت تدبير الأمر ليلاً على وجه يستقر عليه الرأي ثم توعدهم على ما فعلوا فقال { وَٱللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي : يحفظه عليهم ، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء ، ففيه وعيد لهم . ثم أمر رسوله بمقابلتهم بالإعراض ، وعدم التعنيف ، فإنهم لا يضرونه شيئاً إذا توكل على الله واستعان به في نصر دينه وإقامة شرعه ولهذا قال : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } .