Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 92-92)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الصيغة من صيغ الامتناع ، أي : يمتنع ويستحيل ، أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن ، أي : متعمداً ، وفي هذا الإخبار بشدة تحريمه ، وأنه مناف للإيمان أشد منافاة ، وإنما يصدر ذلك إما من كافر ، أو من فاسق قد نقص إيمانه نقصاً عظيماً ، ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك ، فإن الإيمان الصحيح يمنع المؤمن من قتل أخيه الذي قد عقد الله بينه وبينه الأخوة الإيمانية ، التي من مقتضاها محبته وموالاته ، وإزالة ما يعرض لأخيه من الأذى ، وأي أذى أشد من القتل ؟ وهذا يصدقه قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " . فعلم أن القتل من الكفر العملي ، وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله . ولما كان قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً } لفظاً عاماً لجميع الأحوال ، وأنه لا يصدر منه قتل أخيه بوجه من الوجوه ، استثنى تعالى قتل الخطأ فقال : { إِلاَّ خَطَئاً } فإن المخطئ الذي لا يقصد القتل غير آثم ، ولا مجترئ على محارم الله ، ولكنه لما كان قد فعل فعلاً شنيعاً ، وصورته كافية في قبحه ، وإن لم يقصده أمر تعالى بالكفارة والدية فقال : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً } سواء كان القاتل ذكراً أو أنثى ، حراً أو عبداً ، صغيراً أو كبيراً ، عاقلاً أو مجنوناً ، مسلماً أو كافراً ، كما يفيده لفظ " مَنْ " الدالة على العموم ، وهذا من أسرار الإتيان بـ " مَنْ " في هذا الموضع ، فإن سياق الكلام يقتضي أن يقول : فإن قتله ، ولكن هذا لفظ لا يشمل ما تشمله " مَنْ " . وسواء كان المقتول ذكراً أو أنثى ، صغيراً أو كبيراً ، كما يفيده التنكير في سياق الشرط ، فإن على القاتل { تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } كفارة لذلك ، تكون في ماله ، ويشمل ذلك الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، والصحيح والمعيب ، في قول بعض العلماء . ولكن الحكمة تقتضي أن لا يجزئ عتق المعيب في الكفارة لأن المقصود بالعتق نفع العتيق ، وملكه منافع نفسه ، فإذا كان يضيع بعتقه ، وبقاؤه في الرق أنفع له ، فإنه لا يجزئ عتقه ، مع أن في قوله : { تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } ما يدل على ذلك فإن التحرير : تخليص مَنْ استحقت منافعه لغيره أن تكون له ، فإذا لم يكن فيه منافع لم يتصور وجود التحرير . فتأمل ذلك ، فإنه واضح . وأما الدية فإنها تجب على عاقلة القاتل في الخطأ وشبه العمد . { مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ } جبراً لقلوبهم ، والمراد بأهله هنا هم ورثته ، فإن الورثة يرثون ما ترك الميت ، فالدية داخلة فيما ترك ، وللدية تفاصيل كثيرة مذكورة في كتب الفقه . وقوله : { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } أي : يتصدق ورثة القتيل بالعفو عن الدية ، فإنها تسقط ، وفي ذلك حث لهم على العفو ، لأن الله سماها صدقة ، والصدقة مطلوبة في كل وقت . { فَإِن كَانَ } المقتول { مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ } أي : من كفار حربيين { وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } أي : وليس عليكم لأهله دية ، لعدم احترامهم في دمائهم وأموالهم . { وَإِن كَانَ } المقتول { مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَٰقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىۤ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } وذلك لاحترام أهله بما لهم من العهد والميثاق . { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الرقبة ولا ثمنها ، بأن كان معسراً بذلك ، ليس عنده ما يفضل عن مؤنته وحوائجه الأصلية شيء يفي بالرقبة ، { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي : لا يفطر بينهما من غير عذر ، فإن أفطر لعذر ، فإن العذر لا يقطع التتابع ، كالمرض والحيض ونحوهما . وإن كان لغير عذر ، انقطع التتابع ، ووجب عليه استئناف الصوم . { تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ } أي : هذه الكفارة التي أوجبها الله على القاتل توبة من الله على عباده ورحمة بهم ، وتكفير لما عساه أن يحصل منهم من تقصير وعدم احتراز ، كما هو واقع كثيراً للقاتل خطأ . { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } أي : كامل العلم كامل الحكمة ، لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، في أي وقت كان وأي محل كان . ولا يخرج عن حكمته من المخلوقات والشرائع شيء ، بل كل ما خلقه وشرعه ، فهو متضمن لغاية الحكمة ، ومن علمه وحكمته أن أوجب على القاتل كفارة مناسبة لما صدر منه ، فإنه تسبب لإعدام نفس محترمة ، وأخرجها من الوجود إلى العدم ، فناسب أن يعتق رقبة ويخرجها من رق العبودية للخلق إلى الحرية التامة ، فإن لم يجد هذه الرقبة صام شهرين متتابعين ، فأخرج نفسه من رق الشهوات واللذات الحسية القاطعة للعبد عن سعادته الأبدية إلى التعبد لله تعالى بتركها تقرباً إلى الله . ومدها تعالى بهذه المدة الكثيرة الشاقة في عددها ، ووجوب التتابع فيها ، ولم يشرع الإطعام في هذا الموضع لعدم المناسبة . بخلاف الظهار ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى . ومن حكمته أن أوجب في القتل الدية ، ولو كان خطأ ، لتكون رادعة وكافة عن كثير من القتل ، باستعمال الأسباب العاصمة عن ذلك . ومن حكمته أن وجبت على العاقلة في قتل الخطأ ، بإجماع العلماء ، لكون القاتل لم يذنب فيشق عليه أن يحمل هذه الدية الباهظة ، فناسب أن يقوم بذلك من بينه وبينهم المعاونة والمناصرة ، والمساعدة على تحصيل المصالح وكف المفاسد [ ولعل ذلك من أسباب منعهم لمن يعقلون عنه من القتل حذراً من تحميلهم ] ، ويخف عنهم بسبب توزيعه عليهم بقدر أحوالهم وطاقتهم ، وخففت أيضاً بتأجيلها عليهم ثلاث سنين . ومن حكمته وعلمه أن جبر أهل القتيل عن مصيبتهم ، بالدية التي أوجبها على أولياء القاتل .