Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 44, Ayat: 1-16)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا قسم بالقرآن على القرآن ، فأقسم بالكتاب المبين لكل ما يحتاج إلى بيانه ، أنه أنزله { فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } أي : كثيرة الخير والبركة ، وهي ليلة القدر ، التي هي خير من ألف شهر ، فأنزل أفضل الكلام بأفضل الليالي والأيام على أفضل الأنام ، بلغة العرب الكرام ، لينذر به قوماً عمتهم الجهالة ، وغلبت عليهم الشقاوة ، فيستضيئوا بنوره ، ويقتبسوا من هداه ، ويسيروا وراءه ، فيحصل لهم الخير الدنيوي ، والخير الأخروي ، ولهذا قال : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا } أي : في تلك الليل الفاضلة التي نزل فيها القرآن { يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أي : يفصل ويميز ويكتب كل أمر قدري وشرعي حكم الله به ، وهذه الكتابة والفرقان ، الذي يكون في ليلة القدر ، أحد الكتابات التي تكتب وتميز ، فتطابق الكتاب الأول ، الذي كتب الله به ، مقادير الخلائق وآجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وأحوالهم ، ثم إن الله تعالى قد وكل ملائكة تكتب ما سيجري على العبد وهو في بطن أمه ، ثم وكلهم بعد وجوده إلى الدنيا ، وكَّل به كراماً كاتبين ، يكتبون ويحفظون عليه أعماله ، ثم إنه تعالى يقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة ، وكل هذا من تمام علمه ، وكمال حكمته ، وإتقان حفظه ، واعتنائه تعالى بخلقه { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ } أي : هذا الأمر الحكيم أمر صادر من عندنا ، { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } للرسل ، ومنزلين للكتب ، والرسل تبلغ أوامر المرسل ، وتخبر بأقداره ، { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أي : إن إرسال الرسل وإنزال الكتب ، التي أفضلها القرآن ، رحمة من رب العباد بالعباد ، فما رحم الله عباده برحمة أجل من هدايتهم بالكتب والرسل ، وكل خير ينالونه في الدنيا والآخرة ، فإنه من أجل ذلك وسببه ، { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي : يسمع جميع الأصوات ، ويعلم جميع الأمور الظاهرة والباطنة ، وقد علم تعالى ضرورة العباد إلى رسله وكتبه ، فرحمهم بذلك ، ومن عليهم ، فله تعالى الحمد والمنة والإحسان . { رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } أي : خالق ذلك ومدبره ، والمتصرف فيه بما شاء . { إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ } أي : عالمين بذلك علماً مفيداً لليقين ، فاعلموا أن الرب للمخلوقات هو إلهها الحق ، ولهذا قال : { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي : لا معبود إلا وجهه ، { يُحْيِـي وَيُمِيتُ } أي : هو المتصرف وحده بالإحياء والإماتة ، وسيجمعكم بعد موتكم فيجزيكم بعملكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } أي : رب الأولين والآخرين ، مربيهم بالنعم ، الدافع عنهم النقم . فلما قرر تعالى ربوبيته وألوهيته بما يوجب العلم التام ، ويدفع الشك ، أخبر أن الكافرين مع هذا البيان { فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ } أي : منغمرون في الشكوك والشبهات ، غافلون عما خلقوا له ، قد اشتغلوا باللعب الباطل ، الذي لا يجدي عليهم إلا الضرر . { فَٱرْتَقِبْ } أي : انتظر فيهم العذاب ، فإنه قد قرب وآن أوانه ، { يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى ٱلنَّاسَ } أي : يعمهم ذلك الدخان ويقال لهم : { هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } . واختلف المفسرون في المراد بهذا الدخان ، فقيل : إنه الدخان الذي يغشى الناس ويعمهم حين تقرب النار من المجرمين في يوم القيامة ، وأن الله توعدهم بعذاب يوم القيامة ، وأمر نبيه أن ينتظر بهم ذلك اليوم . ويؤيد هذا المعنى أن هذه الطريقة هي طريقة القرآن في توعد الكفار والتأني بهم وترهيبهم بذلك اليوم وعذابه ، وتسلية الرسول والمؤمنين بالانتظار بمن آذاهم ، ويؤيده أيضاً ، أنه قال في هذه الآية : { أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } وهذا يقال يوم القيامة للكفار ، حين يطلبون الرجوع إلى الدنيا ، فيقال : قد ذهب وقت الرجوع . وقيل : إن المراد بذلك ، ما أصاب كفار قريش حين امتنعوا من الإيمان ، واستكبروا على الحق ، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف " فأرسل الله عليهم الجوع العظيم ، حتى أكلوا الميتات والعظام ، وصاروا يرون الذي بين السماء والأرض كهيئة الدخان ، وليس به ، وذلك من شدة الجوع . فيكون - على هذا - قوله : { يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ } أن ذلك بالنسبة إلى أبصارهم وما يشاهدون ، وليس بدخان حقيقة . ولم يزالوا بهذه الحالة حتى استرحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألوه أن يدعو الله لهم ، أن يكشفه الله عنهم ، فدعا ربه ، فكشفه الله عنهم ، وعلى هذا فيكون قوله : { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } إخبار بأن الله سيصرفه عنكم وتوعُّدٌ لهم أن يعودوا إلى الاستكبار والتكذيب ، وإخبار بوقوعه فوقع ، وأن الله سيعاقبهم بالبطشة الكبرى ، قالوا : وهي وقعة " بدر " وفي هذا القول نظر ظاهر . وقيل : إن المراد بذلك ، أن ذلك من أشراط الساعة ، وأنه يكون في آخر الزمان دخان يأخذ بأنفاس الناس ، ويصيب المؤمنين منهم كهيئة الدخان ، والقول هو الأول ، وفي الآية احتمال أن المراد بقوله : { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ * أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } أن هذا كله يكون يوم القيامة ، وأن قوله تعالى { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ } أن هذا ما وقع لقريش كما تقدم . وإذا نزلت هذه الآيات على هذين المعنيين ، لم تجد في اللفظ ما يمنع من ذلك . بل تجدها مطابقة لهما أتم المطابقة ، وهذا الذي يظهر عندي ويترجح ، والله أعلم .