Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 48-50)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول تعالى : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } الذي هو القرآن العظيم ، أفضل الكتب وأجلها . { بِٱلْحَقِّ } أي : إنزالاً بالحق ، ومشتملاً على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه . { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ } لأنه شهد لها ووافقها ، وطابقت أخباره أخبارها ، وشرائعه الكبار شرائعها ، وأخبرت به ، فصار وجوده مصداقاً لخبرها . { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } أي : مشتملاً على ما اشتملت عليه الكتب السابقة ، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية . فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به ، وحث عليه ، وأكثر من الطرق الموصلة إليه . وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين ، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة ، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة ، فما شهد له بالصدق فهو المقبول ، وما شهد له بالرد فهو مردود ، قد دخله التحريف والتبديل ، وإلا فلو كان من عند الله ، لم يخالفه . { فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } من الحكم الشرعي الذي أنزله الله عليك . { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ } أي : لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق بدلاً عمّا جاءك من الحق فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير . { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ } أيها الأُمم جعلنا { شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } أي : سبيلاً وسُنّة ، وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأُمم ، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال ، وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها ، وأما الأُصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان ، فإنها لا تختلف ، فتشرع في جميع الشرائع . { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } تبعاً لشريعة واحدة ، لا يختلف متأخرها و [ لا ] متقدمها . { وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم } فيختبركم وينظر كيف تعملون ، ويبتلي كل أُمة بحسب ما تقتضيه حكمته ، ويؤتي كل أحد ما يليق به ، وليحصل التنافس بين الأمم فكل أمة تحرص على سبق غيرها ، ولهذا قال : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } أي : بادروا إليها وأكملوها ، فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب ، من حقوق الله وحقوق عباده ، لا يصير فاعلها سابقاً لغيره مستولياً على الأمر ، إلا بأمرين : المبادرة إليها ، وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها ويعرض عارضها ، والاجتهاد في أدائها كاملة على الوجه المأمور به . ويستدل بهذه الآية ، على المبادرة لأداء الصلاة وغيرها في أول وقتها ، وعلى أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجرد ما يجزئ في الصلاة وغيرها من العبادات من الأمور الواجبة ، بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات ، التي يقدر عليها لتتم وتكمل ، ويحصل بها السبق . { إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } الأُمم السابقة واللاحقة ، كلهم سيجمعهم الله ليوم لا ريب فيه . { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الشرائع والأعمال ، فيثيب أهل الحق والعمل الصالح ، ويعاقب أهل الباطل والعمل السيئ . { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } هذه الآية هي التي قيل : إنها ناسخة لقوله : { فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ المائدة : 42 ] . والصحيح : أنها ليست بناسخة ، وأن تلك الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم مخير بين الحكم بينهم وبين عدمه ، وذلك لعدم قصدهم بالتحاكم للحق . وهذه الآية تدل على أنه إذا حكم ، فإنه يحكم بينهم بما أنزل الله من الكتاب والسُنّة ، وهو القسط الذي تقدم أن الله قال : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ } [ المائدة : 42 ] ودلّ هذا على بيان القسط ، وأن مادته هو ما شرعه الله من الأحكام ، فإنها المشتملة على غاية العدل والقسط ، وما خالف ذلك فهو جور وظلم . { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها . ولأن ذلك في مقام الحكم والفتوى ، وهو أوسع ، وهذا في مقام الحكم وحده ، وكلاهما يلزم فيه أن لا يتبع أهواءهم المخالفة للحق ، ولهذا قال : { وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } أي : إياك والاغترار بهم ، وأن يفتنوك فيصدوك عن بعض ما أنزل [ الله ] إليك ، فصار اتباع أهوائهم سبباً موصلاً إلى ترك الحق الواجب ، والفرض اتباعه . { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن اتباعك واتباع الحق { فَٱعْلَمْ } أن ذلك عقوبة عليهم وأن الله يريد { أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } فإن للذنوب عقوبات عاجلة وآجلة ، ومن أعظم العقوبات أن يبتلى العبد ويزين له ترك اتباع الرسول ، وذلك لفسقه . { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ } أي : طبيعتهم الفسق والخروج عن طاعة الله واتباع رسوله . { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } أي : أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية ، وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله . فلا ثم إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية . فمَنْ أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي ، ولهذا أضافه الله للجاهلية ، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم ، والعدل والقسط ، والنور والهدى . { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز - بإيقانه - ما في حكم الله من الحسن والبهاء ، وأنه يتعين - عقلاً وشرعاً - اتباعه . واليقين ، هو العلم التام الموجب للعمل .