Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 13-20)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أن هذه السورة الكريمة قد اشتملت على تقرير التوحيد بكل دليل عقلي ونقلي ، بل كادت أن تكون كلها في شأن التوحيد ومجادلة المشركين بالله المكذبين لرسوله . فهذه الآيات ذكر الله فيها ما يتبين به الهدى ، وينقمع به الشرك . فذكر أن { وَلَهُ } تعالى { مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } وذلك هو المخلوقات كلها ، من آدميها وجِنِّها ، وملائكتها ، وحيواناتها وجماداتها ، فالكل خلق مدبرون ، وعبيد مسخرون لربهم العظيم القاهر المالك ، فهل يصح في عقل ونقل أن يعبد مِن هؤلاء المماليك ، الذي لا نفع عنده ولا ضر ؟ ويترك الإخلاص للخالق المدبر المالك ، الضار النافع ؟ ! أم العقول السليمة والفطر المستقيمة تدعو إلى إخلاص العبادة ، والحب والخوف ، والرجاء لله رب العالمين ؟ ! . { ٱلسَّمِيعُ } لجميع الأصوات على اختلاف اللغات بتفنن الحاجات . { ٱلْعَلِيمُ } بما كان ، وما يكون ، وما لم يكن ، لو كان كيف كان يكون ، المطلع على الظواهر والبواطن ؟ ! . { قُلْ } لهؤلاء المشركين بالله : { أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً } من هؤلاء المخلوقات العاجزة يتولاني وينصرني ؟ ! . فلا أتخذ من دونه تعالى ولياً لأنه فاطر السماوات والأرض ، أي : خالقهما ومدبرهما . { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } أي : وهو الرزاق لجميع الخلق ، من غير حاجة منه تعالى إليهم ، فكيف يليق أن أتخذ ولياً غير الخالق الرزاق ، الغني الحميد ؟ ! { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } لله بالتوحيد ، وانقاد له بالطاعة ، لأني أولى من غيري بامتثال أوامر ربي . { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } أي : ونهيت أيضاً عن أن أكون من المشركين ، لا في اعتقادهم ولا في مجالستهم ، ولا في الاجتماع بهم ، فهذا أفرض الفروض عليَّ ، وأوجب الواجبات . { قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } فإن المعصية في الشرك توجب الخلود في النار ، وسخطَ الجبار ، وذلك اليوم هو اليوم الذي يُخاف عذابه ، ويُحذر عقابه لأنه مَن صُرف عنه العذاب يومئذ فهو المرحوم ، ومَنْ نجا فيه فهو الفائز حقاً ، كما أن مَنْ لم ينج منه فهو الهالك الشقي . ومن أدلة توحيده ، أنه تعالى المنفرد بكشف الضراء ، وجلب الخير والسراء ولهذا قال : { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ } من فقر ، أو مرض ، أو عسر ، أو غم ، أوهم أو نحوه . { فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } . فإذا كان وحده النافع الضار ، فهو الذي يستحق أن يفرد بالعبودية والإلهية . { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } فلا يتصرف منهم متصرف ، ولا يتحرك متحرك ، ولا يسكن ساكن إلا بمشيئته ، وليس للملوك وغيرهم الخروج عن ملكه وسلطانه ، بل هم مدبرون مقهورون ، فإذا كان هو القاهر وغيره مقهوراً ، كان هو المستحق للعبادة . { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ } فيما أمر به ونهى ، وأثاب وعاقب ، وفيما خلق وقدّر . { ٱلْخَبِيرُ } المطلع على السرائر والضمائر وخفايا الأمور ، وهذا كله من أدلة التوحيد . { قُلْ } لهم - لما بينا لهم الهدى ، وأوضحنا لهم المسالك - : { أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً } على هذا الأصل العظيم . { قُلِ ٱللَّهُ } أكبر شهادة فهو { شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فلا أعظم منه شهادة ، ولا أكبر ، وهو يشهد لي بإقراره وفعله ، فيقرني على ما قلت لكم ، كما قال تعالى { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } [ الحاقة : 44 - 46 ] فالله حكيم قدير ، فلا يليق بحكمته وقدرته أن يقر كاذباً عليه ، زاعماً أن الله أرسله ولم يرسله ، وأن الله أمره بدعوة الخلق ولم يأمره ، وأن الله أباح له دماء منْ خالفه وأموالهم ونساءهم ، وهو مع ذلك يصدقه بإقراره وبفعله ، فيؤيده على ما قال بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة ، وينصره ويخذل مَنْ خالفه وعاداه ، فأي شهادة أكبر من هذه الشهادة ؟ ! ! وقوله { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } أي : وأوحى الله إليَّ هذا القرآن الكريم لمنفعتكم ومصلحتكم ، لأنذركم به من العقاب الأليم . والنذارةُ إنما تكون بذكر ما ينذرهم به من الترغيب ، والترهيب ، وببيان الأعمال والأقوال ، الظاهرة والباطنة ، التي مَنْ قام بها فقد قبل النذارة ، فهذا القرآن فيه النذارة لكم أيها المخاطبون ، وكل مَنْ بلغه القرآن إلى يوم القيامة ، فإن فيه بيان كل ما يحتاج إليه من المطالب الإلهية . لما بيّن تعالى شهادته التي هي أكبر الشهادات على توحيده ، قال قل لهؤلاء المعارضين لخبر الله ، والمكذبين لرسله : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ } أي : إن شهدوا ، فلا تشهد معهم . فوازِنْ بين شهادة أصدق القائلين ورب العالمين ، وشهادة أزكى الخلق المؤيدة بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة على توحيد الله وحده لا شريك له ، وشهادة أهل الشرك الذين مرجت عقولهم وأديانهم ، وفسدت آراؤهم وأخلاقهم ، وأضحكوا على أنفسهم العقلاء . بل خالفوا بشهادة فطرهم ، وتناقضت أقوالهم على إثبات أن مع الله آلهة أخرى ، مع أنه لا يقوم على ما قالوه أدنى شبهة فضلاً عن الحجج ، واختر لنفسك أي الشهادتين إن كنت تعقل ، ونحن نختار لأنفسنا ما اختاره الله لنبيه الذي أمرنا الله بالاقتداء به ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } أي : منفرد لا يستحق العبودية والإلهية سواه ، كما أنه المنفرد بالخلق والتدبير . { وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } به من الأوثان والأنداد ، وكل ما أشرك به مع الله . فهذا حقيقة التوحيد ، إثبات الإلهية لله ونفيها عمّا عداه . لما بيَّن شهادته وشهادة رسوله على التوحيد ، وشهادة المشركين الذين لا علم لديهم على ضده ، ذكر أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى . { يَعْرِفُونَهُ } أي يعرفون صحة التوحيد { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ } أي : لا شك عندهم فيه بوجه ، كما أنهم لا يشتبهون بأولادهم ، خصوصاً البنين الملازمين في الغالب لآبائهم . ويحتمل أن الضمير عائد إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن أهل الكتاب لا يشتبهون بصحة رسالته ولا يمترون بها ، لما عندهم من البشارات به ، ونعوته التي تنطبق عليه ولا تصلح لغيره ، والمعنيان متلازمان . قوله { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } أي : فوتوها ما خلقت له من الإيمان والتوحيد ، وحرموها الفضل من الملك المجيد { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } فإذا لم يوجد الإيمان منهم ، فلا تسأل عن الخسار والشر ، الذي يحصل لهم .