Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 95-98)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يخبر تعالى عن كماله ، وعظمة سلطانه ، وقوة اقتداره ، وسعة رحمته ، وعموم كرمه ، وشدة عنايته بخلقه ، فقال : { إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ } شامل لسائر الحبوب التي يباشر الناس زرعها ، والتي لا يباشرونها ، كالحبوب التي يبثها الله في البراري والقفار ، فيفلق الحبوب عن الزروع والنوابت ، على اختلاف أنواعها ، وأشكالها ومنافعها ، ويفلق النوى عن الأشجار من النخيل والفواكه ، وغير ذلك . فينتفع الخلق من الآدميين والأنعام والدواب . ويرتعون فيما فلق الله من الحب والنوى ، ويقتاتون وينتفعون بجميع أنواع المنافع التي جعلها الله في ذلك . ويريهم الله من بره وإحسانه ما يبهر العقول ، ويذهل الفحول ، ويريهم من بدائع صنعته وكمال حكمته ، ما به يعرفونه ويوحدونه ، ويعلمون أنه هو الحق ، وأن عبادة ما سواه باطلة . { يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ } كما يخرج من المني حيواناً ، ومن البيضة فرخاً ، ومن الحب والنوى زرعاً وشجراً . { وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ } وهو الذي لا نمو فيه ، أو لا روح { مِنَ ٱلْحَيِّ } كما يخرج من الأشجار والزروع ، النوى والحب ، ويخرج من الطائر بيضاً ، ونحو ذلك . { ذٰلِكُمُ } الذي فعل ما فعل ، وانفرد بخلق هذه الأشياء وتدبيرها { ٱللَّهُ } رَبُّكُمْ أي : الذي له الألوهية والعبادة على خلقه أجمعين ، وهو الذي ربى جميع العالمين بنعمه ، وغذاهم بكرمه . { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } أي : فأنى تصرفون ، وتصدون عن عبادة مَنْ هذا شأنه ، إلى عبادة مَنْ لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياة ، ولا نشوراً ؟ ! ! ولما ذكر تعالى مادة خلق الأقوات ، ذكر منته بتهيئة المساكن ، وخلقه كل ما يحتاج إليه العباد ، من الضياء والظلمة ، وما يترتب على ذلك من أنواع المنافع والمصالح فقال : { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ } أي : كما أنه فالق الحب والنوى ، كذلك هو فالق ظلمة الليل الداجي ، الشامل لما على وجه الأرض ، بضياء الصبح الذي يفلقه شيئاً فشيئاً ، حتى تذهب ظلمة الليل كلها ، ويخلفها الضياء والنور العام ، الذي يتصرف به الخلق في مصالحهم ومعايشهم ، ومنافع دينهم ودنياهم . ولما كان الخلق محتاجين إلى السكون والاستقرار والراحة ، التي لا تتم بوجود النهار والنور { جَعَلَ } الله { ٱلْلَّيْلَ سَكَناً } يسكن فيه الآدميون إلى دورهم ومنامهم ، والأنعام إلى مأواها ، والطيور إلى أوكارها ، فتأخذ نصيبها من الراحة ، ثم يزيل الله ذلك ، بالضياء ، وهكذا أبدا إلى يوم القيامة { وَ } جعل تعالى { ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً } بهما تعرف الأزمنة والأوقات ، فتنضبط بذلك أوقات العبادات ، وآجال المعاملات ، ويعرف بها مدة ما مضى من الأوقات التي لولا وجود الشمس والقمر وتناوبهما واختلافهما - لما عرف ذلك عامة الناس ، واشتركوا في علمه ، بل كان لا يعرفه إلا أفراد من الناس بعد الاجتهاد ، وبذلك يفوت من المصالح الضرورية ما يفوت . { ذٰلِكَ } التقدير المذكور { تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ } الذي من عزته انقادت له هذه المخلوقات العظيمة ، فجرت مذللة مسخرة بأمره ، بحيث لا تتعدى ما حده الله لها ، ولا تتقدم عنه ولا تتأخر { ٱلْعَلِيمِ } الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن ، والأوائل والأواخر . ومن الأدلة العقلية على إحاطة علمه ، تسخير هذه المخلوقات العظيمة ، على تقدير ونظام بديع ، تحيُّرُ العقول في حسنه وكماله وموافقته للمصالح والحكم . { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } حين تشتبه عليكم المسالك ، ويتحير في سيره السالك ، فجعل الله النجوم هداية للخلق إلى السبل ، التي يحتاجون إلى سلوكها لمصالحهم وتجاراتهم وأسفارهم . منها : نجوم لا تزال تُرى ، ولا تسير عن محلها ، ومنها : ما هو مستمر السير ، يعرف سيرَه أهل المعرفة بذلك ، ويعرفون به الجهات والأوقات . ودلت هذه الآية ونحوها على مشروعية تعلم سير الكواكب ومحالّها الذي يسمى علم التسيير ، فإنه لا تتم الهداية ولا تمكن إلا بذلك . { قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ } أي بيناها ، ووضحناها ، وميزنا كل جنس ونوع منها عن الآخر ، بحيث صارت آيات الله بادية ظاهرة . { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : لأهل العلم والمعرفة ، فإنهم الذين يوجه إليهم الخطاب ، ويطلب منهم الجواب ، بخلاف أهل الجهل والجفاء ، المعرضين عن آيات الله وعن العلم الذي جاءت به الرسل ، فإن البيان لا يفيدهم شيئاً ، والتفصيل لا يزيل عنهم ملتبساً ، والإيضاح لا يكشف لهم مشكلاً . { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ } وهو آدم عليه السلام . أنشأ الله منه هذا العنصر الآدمي الذي قد ملأ الأرض ولم يزل في زيادة ونمو ، الذي قد تفاوت في أخلاقه وخلقه وأوصافه تفاوتاً لا يمكن ضبطه ، ولا يدرك وصفه ، وجعل الله لهم مستقراً ، أي منتهى ينتهون إليه ، وغاية يساقون إليها ، وهي دار القرار التي لا مستقر وراءها ، ولا نهاية فوقها ، فهذه الدار هي التي خلق الخلق لسكناها ، وأوجدوا في الدنيا ليسعوا في أسبابها ، التي تنشأ عليها وتعمر بها ، وأودعهم الله في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم ، ثم في دار الدنيا ، ثم في البرزخ ، كل ذلك على وجه الوديعة ، التي لا تستقر ولا تثبت ، بل ينتقل منها حتى يوصل إلى الدار ، التي هي المستقر ، وأما هذه الدار فإنها مستودع وممر { قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } عن الله آياته ، ويفهمون عنه حججه وبيناته .