Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 76, Ayat: 4-27)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً * إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } إلى آخر الثواب أي : إنا هيأنا وأرصدنا لمن كفر بالله ، وكذب رسله ، وتجرأ على المعاصي { سَلاَسِلاَ } في نار جهنم ، كما قال تعالى : { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } [ الحاقة : 32 ] . { وَأَغْلاَلاً } تغل بها أيديهم إلى أعناقهم ويوثقون بها . { وَسَعِيراً } أي : ناراً تستعر بها أجسامهم وتحرق بها أبدانهم ، { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } [ النساء : 56 ] وهذا العذاب دائم لهم أبداً ، مخلدون فيه سرمداً . وأما { ٱلأَبْرَارَ } وهم الذين برت قلوبهم بما فيها من محبة الله ومعرفته ، والأخلاق الجميلة ، فبرت جوارحهم ، واستعملوها بأعمال البر ، أخبر أنهم { يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } أي : شراب لذيذ من خمر قد مزج بكافور أي : خلط بكافور ، ليبرده ويكسر حدته ، وهذا الكافور [ في غاية اللذة ] قد سلم من كل مكدر ومنغص ، موجود في كافور الدنيا ، فإن الآفة الموجودة في الأسماء التي ذكر الله أنها في الجنة وهي في الدنيا تعدم في الآخرة . كما قال تعالى : { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } [ الواقعة : 28 - 29 ] { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ آل عمران : 15 ] { لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ } [ الأنعام : 127 ] { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [ الزخرف : 71 ] . { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } أي : ذلك الكأس اللذيذ الذي يشربون به ، لا يخافون نفاده ، بل له مادة لا تنقطع ، وهي عين دائمة الفيضان والجريان ، يفجرها عباد الله تفجيراً ، أنى شاؤوا ، وكيف أرادوا ، فإن شاؤوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات ، أو إلى الرياض الناضرات ، أو بين جوانب القصور والمساكن المزخرفات ، أو إلى أي جهة يرونها من الجهات المونقات . وقد ذكر جملة من أعمالهم في أول هذه السورة ، فقال : { يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ } أي : بما ألزموا به أنفسهم لله من النذور والمعاهدات ، وإذا كانوا يوفون بالنذر ، وهو لم يجب عليهم ، إلا بإيجابهم على أنفسهم ، كان فعلهم وقيامهم بالفروض الأصلية ، من باب أولى وأحرى ، { وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } أي : منتشراً فاشياً ، فخافوا أن ينالهم شره ، فتركوا كل سبب موجب لذلك ، { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ } أي : وهم في حال يحبون فيها المال والطعام ، لكنهم قدموا محبة الله على محبة نفوسهم ، ويتحرون في إطعامهم أولى الناس وأحوجهم ، { مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } . ويقصدون بإنفاقهم وإطعامهم وجه الله تعالى ، ويقولون بلسان الحال : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } أي : لا جزاء مالياً ، ولا ثناءً قولياً . { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً } أي : شديد الجهمة والشر { قَمْطَرِيراً } أي : ضنكاً ضيقاً ، { فَوَقَٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ } فلا يحزنهم الفزع الأكبر ، وتتلقاهم الملائكة [ هذا يومكم الذي كنتم توعدون ] . { وَلَقَّاهُمْ } أي : أكرمهم وأعطاهم { نَضْرَةً } في وجوههم { وَسُرُوراً } في قلوبهم ، فجمع لهم بين نعيم الظاهر والباطن ، { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } على طاعة الله ، فعملوا ما أمكنهم منها ، وعن معاصي الله ، فتركوها ، وعلى أقدار الله المؤلمة ، فلم يتسخطوها ، { جَنَّةً } جامعة لكل نعيم ، سالمة من كل مكدر ومنغص ، { وَحَرِيراً } كما قال [ تعالى : ] { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ] ولعل الله إنما خص الحرير ، لأنه لباسهم الظاهر ، الدال على حال صاحبه . { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ } الاتكاء : التمكن من الجلوس ، في حال الرفاهية والطمأنينة [ الراحة ] ، والأرائك هي السرر التي عليها اللباس المزين ، { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا } أي : في الجنة { شَمْساً } يضرهم حرها ، { وَلاَ زَمْهَرِيراً } أي : برداً شديداً ، بل جميع أوقاتهم في ظل ظليل ، لا حر ولا برد ، بحيث تلتذ به الأجساد ، ولا تتألم من حر ولا برد . { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } أي : قربت ثمراتها من مريدها تقريبا ينالها ، وهو قائم ، أو قاعد ، أو مضطجع . ويطاف على أهل الجنة أي : يدور [ عليهم ] الخدم والولدان { بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ } أي : مادتها من فضة ، [ وهي ] على صفاء القوارير ، وهذا من أعجب الأشياء ، أن تكون الفضة الكثيفة ، من صفاء جوهرها ، وطيب معدنها ، على صفاء القوارير . { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } أي : قدروا الأواني المذكورة على قدر رِيِهِّمْ ، لا تزيد ولا تنقص ، لأنها لو زادت نقصت لذتها ، ولو نقصت لم تف بريهم . ويحتمل أن المراد : قدرها أهل الجنة بنفوسهم بمقدار يوافق لذاتهم ، فأتتهم على ما قدروا في خواطرهم . { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا } أي : في الجنة ، من كأس ، وهو الإناء المملوء من خمر ورحيق ، { كَانَ مِزَاجُهَا } أي : خلطها { زَنجَبِيلاً } ليطيب طعمه وريحه . { عَيْناً فِيهَا } أي : في الجنة ، { تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً } سميت بذلك لسلاستها ولذتها وحسنها . { وَيَطُوفُ } على أهل الجنة ، في طعامهم وشرابهم وخدمتهم . { وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أي : خلقوا من الجنة للبقاء ، لا يتغيرون ولا يكبرون ، وهم في غاية الحسن ، { إِذَا رَأَيْتَهُمْ } منتشرين في خدمتهم { حَسِبْتَهُمْ } من حسنهم { لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } وهذا من تمام لذة أهل الجنة ، أن يكون خدامهم الولدان المخلدون ، الذين تسر رؤيتهم ، ويدخلون على مساكنهم ، آمنين من تبعتهم ، ويأتونهم بما يدعون وتطلبه نفوسهم ، { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ } أي : هناك في الجنة ، ورمقت ما هم فيه من النعيم { رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } فتجد الواحد منهم ، عنده من القصور والمساكن والغرف المزينة المزخرفة ، ما لا يدركه الوصف ، ولديه من البساتين الزاهرة ، والثمار الدانية ، والفواكه اللذيذة ، والأنهار الجارية ، والرياض المعجبة ، والطيور المطربة [ المشجية ] ، ما يأخذ بالقلوب ، ويفرح النفوس . وعنده من الزوجات . اللاتي هن في غاية الحسن والإحسان ، الجامعات لجمال الظاهر والباطن ، الخيرات الحسان ، ما يملأ القلب سروراً ، ولذةً وحبوراً ، وحوله من الولدان المخلدين ، والخدم المؤبدين ، ما به تحصل الراحة والطمأنينة ، وتتم لذة العيش ، وتكمل الغبطة . ثم علاوة ذلك ومعظمه الفوز برؤية الرب الرحيم ، وسماع خطابه ، ولذة قربه ، والابتهاج برضاه ، والخلود الدائم ، وتزايد ما هم فيه من النعيم كل وقت وحين ، فسبحان الملك المالك ، الحق المبين ، الذي لا تنفد خزائنه ، ولا يقل خيره ، فكما لا نهاية لأوصافه فلا نهاية لبره وإحسانه ، { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ } أي : قد جللتهم ثياب السندس والإستبرق الأخضران ، اللذان هما أجل أنواع الحرير ، فالسندس : ما غلظ من الديباج ، والإستبرق : ما رق منه . { وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } أي : حلوا في أيديهم أساور الفضة ، ذكورهم وإناثهم ، وهذا وعد وعدهم الله ، وكان وعده مفعولاً ، لأنه لا أصدق منه قيلاً ولا حديثاً . وقوله : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } أي : لا كدر فيه بوجه من الوجوه ، مطهراً لما في بطونهم من كل أذى وقذى . { إِنَّ هَـٰذَا } الجزاء الجزيل والعطاء الجميل { كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } على ما أسلفتموه من الأعمال ، { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُور } أي : القليل منه ، يجعل الله لكم به من النعيم المقيم ما لا يمكن حصره . وقوله تعالى لما ذكر نعيم الجنة { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً } فيه الوعد والوعيد ، وبيان كل ما يحتاجه العباد ، وفيه الأمر بالقيام بأوامره وشرائعه أتمّ القيام ، والسعي في تنفيذها ، والصبر على ذلك . ولهذا قال : { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً } أي : اصبر لحكمه القدري ، فلا تسخطه ، ولحكمه الديني ، فامض عليه ، ولا يعوقك عنه عائق . { وَلاَ تُطِعْ } من المعاندين ، الذين يريدون أن يصدوك { ءَاثِماً } أي : فاعلاً إثماً ومعصيةً ولا { كَفُوراً } فإن طاعة الكفار والفجار والفساق ، لا بد أن تكون في المعاصي ، فلا يأمرون إلا بما تهواه أنفسهم . ولما كان الصبر يساعده القيام بعبادة الله ، والإكثار من ذكره ، أمره الله بذلك ، فقال : { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي : أول النهار وآخره ، فدخل في ذلك ، الصلوات المكتوبات وما يتبعها من النوافل ، والذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، والتكبير في هذه الأوقات . { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ } أي : أكثر [ له ] من السجود ، ولا يكون ذلك إلا بالإكثار من الصلاة . { وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } وقد تقدم تقييد هذا المطلق بقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ المزمل : 1 - 2 ] الآية : [ وقوله ] { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ } أي : المكذبين لك أيها الرسول بعد ما بينت لهم الآيات ، ورغبوا ورهبوا ، ومع ذلك ، لم يفد فيهم ذلك شيئاً ، بل لا يزالون يؤثرون { ٱلْعَاجِلَةَ } ويطمئنون إليها ، { وَيَذَرُونَ } أي : يتركون العمل ويهملون { وَرَآءَهُمْ } أي : أمامهم { يَوْماً ثَقِيلاً } وهو يوم القيامة ، الذي مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون ، وقال تعالى : { يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [ القمر : 8 ] فكأنهم ما خلقوا إلا للدنيا والإقامة فيها .