Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 212-212)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } حتى بدّلوا النعمة { ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } لحضورها ، فألهتهم عن غائب الآخرة . قال الحراليّ : ففي ضمنه إشعار بأنّ استحسان بهجة الدنيا كفرٌ مّا ، من حيث إن نظر العقل والإيمان يُبصِّرُ طيّتها ، ويشهد جيفتها ، فلا يغترّ بزينتها ، وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحقّ ؛ فأبهم تعالى المزيِّن في هذه الآية ليشمل أدنى التزيين الواقع على لسان الشيطان ، وأخفى التزيين الذي يكون من استدراج الله كما في قوله تعالى : { زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [ الأنعام : 108 ] . وفي كلامه إشعار بما يجاب عن ورود التزيين ، مسنداً إلى الله تعالى تارةً وإلى غيره أخرى ، في عدّة آيات من التنزيل الكريم . وللراغب كلام بديع ينحلُّ به مثلُ هذا الإشكال وهو قوله : إنّ الفعل كما ينسب إلى المباشر له ، ينسب إلى ما هو سببه ومسهلّه ، وعلى هذا يصحّ أن ينسب فعلٌ واحدٌ تارةً إلى الله تعالى وتارةً إلى غيره . نحو قوله : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ } [ السجدة : 11 ] ، وفي موضع آخر : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ } [ الزمر : 42 ] . فأسند الفعل في الأول إلى المباشر له ، وفي الثاني إلى الآمر به ؛ وهكذا ، بتصوّرِ ما ذكر ، تزول الشبهة فيما يرى من الأفعال منسوباً إلى الله تعالى ، منفياً عن الله تعالى . نحو قوله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [ الأنفال : 17 ] ، وقوله : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] . { وَيَسْخَرُونَ } - أي : يهزؤون - { مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } وهذا كما قال تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ … } [ المطففين : 29 - 30 ] الآيات { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } وهم المؤمنون ، وإنما ذكروا بعنوان التقوى لحضهم عليها وإيذاناً بترتب الحكم عليها { فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } لأنهم في علِّيين وهم في أسفل سافلين ، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا ، كما قال تعالى : { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } [ المطففين : 34 - 35 ] . ولذا قال الراغب : يحتمل قوله تعالى : { فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } وجهين : أحدهما : أنّ حال المؤمنين في الآخرة أعلى من حال الكفار في الدنيا . والثاني : أنّ المؤمنين في الآخرة هم في الغرفات ، والكفار في الدرك الأسفل من النار . انتهى . لطائف قال السيلكوتي : اعلم أن قوله تعالى : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } الخ جملة معللة لما سبق من أحوال الكفار من المنافقين وأهل الكتاب ؛ يعني أن جميع ما ذكر من صفاتهم الذميمة ، لأجل تهالكهم في محبة الحياة الدنيا وإعراضهم عن غيرها ؛ وأورد التزيين بصيغة الماضي لكونه مفروغاً منه ، مركوزاً في طبيعتهم . وعطف عليه بالفعل المضارع - أعني : { وَيَسْخَرُونَ } لإفادة الاستمرار . وعطف قوله : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } لتسلية المؤمنين . وقوله تعالى : { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يعني : ما يعطي الله هؤلاء المتقين من الثواب بغير حساب ، أي : رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له ولا انقطاع ، كقوله سبحانه : { فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ غافر : 40 ] ؛ فإن كلّ ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناهٍ ، فما لا يكون متناهياً كان لا محالة خارجاً عن الحساب . وقد استقصى الراغب ما تحتمله الآية من وجوهها - وتلك سعة - وعبارته : أعطاه بغير حساب : إذا أعطاه أكثر مما يستحق ، أو أقلّ مما يستحق ؛ والأول هو المقصود وهو المشار إليه بالإحسان ؛ وقد فسر ذلك على أوجهٍ لإجمال اللفظ وإبهامه . الأول : يعطيه عطاءً لا يحويه حصر العباد . كقول الشاعر : @ عطاياه يُحصَى قبل إحصاءها القطرُ @@ الثاني : يعطيه أكثر مما يستحقه . الثالث : يعطيه ولا منّة . الرابع : يعطيه بلا مضايقة . من قوله : حاسبه . الخامس : يعطيه أكثر مما يحسبه أن يكفيه - وكل هذه الوجوه يحتمل أن يكون في الدنيا ، ويحتمل أن يكون في الآخرة . السادس : أنّ ذلك إشارة إلى توسيعه على الكفّار والفسّاق الذين قال فيهم : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً … } [ الزخرف : 33 ] الآية ، تنبيهاً أن لا فضيلة في المال لمن يوسع عليه ، ما لم يستعن عليه في الوصول إلى المطلوب منه ؛ ولهذا قال تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ } [ المؤمنون : 55 ] الآية . السابع : يعطي أولياءه بلا تبعة ولا حساب عليهم فيما يعطون ، وذلك لأنّ المؤمن لا يأخذ من عرض الدنيا إلا ما يجب من حيث يجب على الوجه الذي يجب ولا ينفقه إلا على ذلك ، فهو يحاسب فلا يحاسب ، ولهذا روي : من حاسب نفسه في الدنيا أمن الحساب في الآخرة ! وعلى هذا قال تعالى لسليمان : { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] . الثامن : أنّ الله عز وجل يعامل في القيامة المؤمنين لا بقدر استحقاقهم بل بأكثر منه ، كما قال : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] الآية . التاسع : وهو يقارب ذلك : أنّ ذلك إشارة إلى ما روي أن أهل الجنة لا حظر عليهم , وعلى ذلك قوله تعالى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ } [ الزخرف : 71 ] الآية ، وقوله : { يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ } [ النساء : 124 ] . وأما تعلقه بما تقدم ، فعلى بعض هذه التفاسير ، يتعلق بالذين كفروا ، وعلى بعضه يتعلق بالذين آمنوا .