Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 74-74)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } المخاطبون إمّا أهل الكتاب الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، أي : اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم ، والأمور التي جرت عليهم ، والعقاب الذي نزل بمن أصرّ على المعصية منهم ، والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم ، والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم ، وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم . فأخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب . وهذا أَولى ، لأن قوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } ، خطاب مشافهة ، فحملُه على الحاضرين أولى . وإما أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصاً ، أو من قبل المخاطبين من سلفهم . والله أعلم . { فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ } في القساوة { أَوْ أَشَدُّ } منها { قَسْوَةً } أي : هي في القسوة مثل الحجارة أو زائدة عليها فيها . و { أَوْ } للتخير أو للترديد ، بمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى كالحديد ، أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال : هي أقسى من الحجارة ، وتركُ ضمير المفضل عليه للأمن من الالتباس { وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ } أي : يتفتح بالسعة والكثرة { مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ } بيان لأشديّة قلوبهم من الحجارة في القساوة وعدم التأثر بالعظات والقوارع التي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور ، يعني أن الحجارة ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياه العظيمة { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ } أي : يتشقق { فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ } أي : العيون التي هي دون الأنهار { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } أي : يتردّى من رأس الجبل من خشية الله ، انقياداً لما سخره له من الميل إلى المركز بالسلاسة ، قاله القاشاني . وقد ذهب بعض المفسرين إلى الاستدلال بظاهر الآية على خلق التمييز في الجماد حتى يخشى ويسبح . والمحققون على أن هذه الآية وأمثالها من المجاز البليغ . وأن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة ، لاسيما وأن المجاز أكثر في اللسان منها ، كما بسط في مطولات البيان . وقد رد الإمام ابن حزم ، في أول كتابه " الفصل " على من زعم أن للحيوان والجماد تمييزاً ، رداً مسهباً . وقال : من ادعى ذلك أكذبه العيان . ثم استثنى ما كان معجزة للأنبياء عليهم السلام . ( قال ) : ولعل معترضاً يعترض بقوله تعالى يصف الحجارة : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } ، فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبيّ . فإذ لا شك في هذا ، فإن القول منه تعالى يخرج على أحد ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون الضمير في قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ } راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } فذكر تعالى أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوماً ما ، فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى ، وهذا أمر يشاهد بالعيان ، فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى ، ويخشى العاصي . وقد أخبر عز وجلّ : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } [ آل عمران : 199 ] ، وكما أخبر تعالى أن من الأعراب من يؤمن بالله من بعد أن أخبر أن { ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } [ التوبة : 97 ] ( قال ) : فهذا وجه ظاهر متيقن الصحة . والوجه الثاني : أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجرى أقداره ، كما قلنا في قوله تعالى حاكياً عن السماء والأرض : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . والوجه الثالث : أن يكون الله تعالى عنى بقوله : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } الجبلَ الذي صار دكّاً ، إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه السلام الرؤية ، فذلك الجبل بلا شك من جملة الحجارة ، وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى ، وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة . ويكون { يَهْبِطُ } بمعنى " هبط " كقوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الأنفال : 30 ] معناه : وإذ مكر ، وبين قوله تعالى ، مصدقاً إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم في إنكاره على أبيه عبادة الحجارة { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ } [ مريم : 42 ] وقوله تعالى : { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } [ الزمر : 43 ] فصح بهذا ، صحةً لا مجال للشك فيها ، أن الحجارة لا تعقل . وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة والمشاهدة فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية ، المعهود كل ذلك عندنا . وأما الأحاديث المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان ، والكعبة كذلك ، وأن الجبال تطاولت ، وخشع جبل كذا ، فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف ، لا يصح منها شيء من طريق الإسناد أصلاً ، ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يُدْخِل شيئاً منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث ، أو ما يستجاز روايته ، مما يقارب الصحة ( انتهى كلام ابن حزم ) . وقال ابن جرير : اختلف أهل النحو في معنى الهبوط - ما هبط من الأحجار من خشية الله - فقال بعضهم : إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيّؤ ظلاله . وقال آخرون : ذلك الجبل الذي صار دكّاً إذ تجلى له ربه . وقال آخرون : قوله : { يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } كقوله : { جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } [ الكهف : 77 ] لا إرادة له . قالوا : وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يُرى كأنه هابط خاشع من ذلك خشية الله . قال زيد الخيل : @ بِجَمعٍ تَضِلُّ البُلْقُ فِيْ حَجَرَاتِهِ تَرى الأُكْمَ منه سُجداً لِلْحَوافرِ @@ وكما قال سويد بن أبي كاهل ، يصف عدوّاً له : @ ساجدَ المنخِرِ لا يَرْفعُهُ خَاشعَ الطَّرفِ أصمَّ المُستمعْ @@ يريد أنه ذليل . وكما قال جرير بن عطية : @ لما أَتي خَبرُ الزُّبيرِ تَواضَعَتْ سُوْر المدينةِ والجبَالُ الخُشَّعُ @@ وقال آخرون : معنى قوله : { يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } أي : يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه ، كما قيل : ناقة تاجرة إذا كانت ، من نجابتها وفراهتها ، تدعو الناس إلى الرغبة فيها ، كما قال جرير بن عطية : @ وأعورُ مِن نَبْهانَ ، أما نَهاره فَأعمى ، وأما ليلهٌ فَبصيرُ @@ فجعل الصفة لليل والنهار ، وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه ، من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به . ثم اختار ابن جرير ما يقتضيه ظاهر الآية ، وتقدم رد ابن حزم له مبرهناً عليه . ثم رأيت الإمام الراغب حاول هنا تقريب ما نقل من الوقوف على ظاهرها بتأويله . وعبارته : قال مجاهد وابن جريج : كل حجر تردى من رأس جبل فخشية الله نزلت به ، وقال الزجاج : الهابط منها قد جعل له معرفة ، قال : ويدل على ذلك قوله : { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [ الحشر : 21 ] وقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } [ الحج : 18 ] إلى قوله : { وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ } [ الحج : 18 ] ، وقد روى مثل هذا عن السلف ، ولا بد في معرفة ذلك من مقدمة تكشف عن وجه هذا القول ، وحقيقته . فإن قوماً استسلموا لما حكي لهم من هذا النحو ، فانطووا على شبهة . وقوماً استبعدوا ذلك واستخفوا عقل رواته وقائليه ، فيقال وبالله التوفيق : إن قوماً من المتقدمين ذكروا أن جميع المعارف على أضرب : الأول : المعرفة التامة التي هي العلم التام ، وذلك لعلام الغيوب الذي أحاط بكل شيء علماً . والثاني : معرفة متزايدة ، وهي للإنسان ، وذاك أن الله تعالى جعل له معرفة غريزية ، وجعل له بذلك سبيلا إلى تعرف كثير مما لم يعرفه ، ليس ذلك إلا للإنسان . والثالث : معرفة دون ذلك ، وهي معرفة الحيوانات التي سخرها لإيثار أشياء نافعة لها والسعي إليها . واسترذال أشياء هي ضارة لها وتجنبها ، ودفع مضار عن أنفسها . والرابع : معرفة الناميات من الأشجار والنبات ، وهي دون ما للحيوانات ، وليس ذلك إلا في استجلاب المنافع وما ينميها . والخامس : معرفة العناصر ، فإن كل واحد منها مسخر لأن يشغل المكان المختص به كالحجر في طلب السفل ، والنار في طلب العلو ، وذلك بتسخير الله تعالى ، بلا اختيار منه . قالوا : والدلالة على ذلك أن كل واحد من هذه العناصر إذا نقل من مركزه قهراً ، أبى إلا العود إليه طوعاً . قالوا : ويوضح ذلك أن السراج يجتذب الأدهان التي تبقيه ، ويأبى الماء الذي يطفيه ، وأن المغناطيس يجر الحديد ولا يجر غيره . هذا ما حكوه . فعلى هذا إذا قيل لهذه الأشياء : معرفة ، فليس ببعيد ، متى سلم لهم أن هذه القوى تسمى معرفة . فأما إذا قيل : إن للجمادات معارف الإنسان في أنها تميز وتختار وتريد ، فهذا مما تعافه العقول . انتهى قول الراغب . وهو تأويل حسن ، ومبناه على أن اصطلاح السلف في كثير من الإطلاقات غير اصطلاحات الخلف . وهو مسلم في كثير من الإطلاقات . وقوله تعالى : { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } فيه من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى . فإن الله عز وجل إذا كان عالماً بما يعملونه ، مطلعاً عليه غير غافل عنه ، كان لمجازاتهم بالمرصاد . ولما بين سبحانه وتعالى قساوة قلوبهم ، تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان ، فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيب عليهم ، والتبكيت لهم ، منكراً للطمع في إيمانهم فقال : { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ … } .